فصل: (بَابُ الْخُلْعِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.(بَابُ الْخُلْعِ):

(وَإِذَا تَشَاقَّ الزَّوْجَانِ وَخَافَا أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ بِمَالٍ يَخْلَعُهَا بِهِ) لِقولهِ تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (فَإِذَا فَعَلَا ذَلِكَ وَقَعَ بِالْخُلْعِ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ وَلَزِمَهَا الْمَالُ) لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «الْخُلْعُ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ» وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ حَتَّى صَارَ مِنْ الْكِنَايَاتِ، وَالْوَاقِعُ بِالْكِنَايَةِ بَائِنٌ إلَّا أَنْ ذِكْرَ الْمَالِ أَغْنَى عَنْ النِّيَّةِ هُنَا، وَلِأَنَّهَا لَا تُسْلِمُ الْمَالَ إلَّا لِتَسْلَمَ لَهَا نَفْسُهَا وَذَلِكَ بِالْبَيْنُونَةِ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ الْخُلْعِ) هُوَ لُغَةً: النَّزْعُ خَلَعَ ثَوْبَهُ وَنَعْلَهُ، وَمِنْهُ خَالَعَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا إذَا افْتَدَتْ مِنْهُ بِمَالٍ، وَخَالَعَهَا وَتَخَالَعَا صِيغَ مِنْهَا الْمُفَاعَلَةُ مُلَاحَظَةً لِمُلَابَسَةِ كُلٍّ الْآخَرَ كَالثَّوْبِ، قَالَ تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}.
وَفِي الشَّرْعِ: أَخْذُهُ الْمَالِ بِإِزَاءِ مِلْكِ النِّكَاحِ، وَالْأَوْلَى قول بَعْضِهِمْ إزَالَةُ مِلْكِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْخُلْعِ لِاتِّحَادِ جِنْسِهِ مَعَ الْمَفْهُومِ - اللُّغَوِيِّ.
وَالْفَرْقُ بِخُصُوصِ الْمُتَعَلِّقِ وَالْقَيْدِ الزَّائِدِ وَقول بَعْضِهِمْ هُوَ إزَالَةُ مِلْكِ النِّكَاحِ بِبَدَلٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةِ قولنَا بِلَفْظِ الْخُلْعِ فِيهِ وَبِبَدَلٍ فِيمَا يَلِيهِ، فَالصَّحِيحُ إزَالَةُ مِلْكِ النِّكَاحِ بِبَدَلٍ بِلَفْظِ الْخُلْعِ، فَإِنَّ الطَّلَاقَ عَلَى مَالٍ لَيْسَ هُوَ الْخُلْعُ بَلْ فِي حُكْمِهِ مِنْ وُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ لَا مُطْلَقًا وَإِلَّا لَجَرَى فِيهِ الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ فَسْخٌ.
وَفِي سُقُوطِ الْمَهْرِ لَوْ كَانَ الْمَالُ الْمُسَمَّى غَيْرَهُ وَهُوَ مُنْتَفٍ.
وَلَوْ قِيلَ إنَّهُ بِالْمَفْهُومِ الشَّرْعِيِّ مِنْ مَاصَدَقَاتِ الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ لِأَنَّ النَّزْعَ مُطْلَقًا أَعَمُّ مِنْ كَوْنِ مُتَعَلَّقِهِ أَمْرًا حِسِّيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا كَقَيْدِ النِّكَاحِ بِمُقَابَلَةِ شَيْءٍ أَوَّلًا لَمْ يُبْعِدْ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ النَّقْلُ كَمَا غَلَطَ مَنْ جَعَلَ أُصُولَ الْفِقْهِ غَيْرَ مَنْقول لِانْدِرَاجِ حَقِيقَتِهِ فِي مُطْلَقِ مُسَمَّى الْأُصُولِ لُغَةً لِأَنَّ تَخْصِيصَ الِاسْمِ بِالْأَخَصِّ بَعْدَ كَوْنِهِ لِلْأَعَمِّ الصَّادِقِ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ نَقْلٌ بِلَا شَكٍّ.
وَشَرْطُهُ شَرْطُ الطَّلَاقِ.
وَحُكْمُهُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ عِنْدَنَا.
وَصِفَتُهُ أَنَّهُ يَمِينٌ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ مُعَاوَضَةٌ مِنْ جَانِبِهَا فَتُرَاعَى أَحْكَامُ الْيَمِينِ مِنْ جَانِبِهِ وَأَحْكَامُ الْمُعَاوَضَةِ مِنْ جَانِبِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا هُوَ يَمِينٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَسَتَأْتِي ثَمَرَةُ الْخِلَافِ.
قولهُ: (إذَا تَشَاقَّ الزَّوْجَانِ) أَيْ تَخَاصَمَا (وَخَافَا) أَيْ عَلِمَا كَقولهِ:
وَلَا تَدْفِنُنِي فِي الْفَلَاةِ فَإِنَّنِي ** أَخَافُ إذَا مَا مِتَّ أَنْ لَا أَذُوقَهَا

أَيْ أَعْلَمُ.
وَحُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى مَا حَدَّدَهُ مِنْ الْمَوَاجِبِ الَّتِي أَمَرَ أَنْ لَا تَتَجَاوَزَ، وَهَذَا الشَّرْطُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ إذْ الْبَاعِثُ عَلَى الِاخْتِلَاعِ غَالِبًا ذَلِكَ، لَا أَنَّهُ شَرْطٌ مُعْتَبَرُ الْمَفْهُومِ وَهُوَ مُشَاقَّتُهُمَا كَذَا قِيلَ.
وَقَدْ يُقَالُ: جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ فِي كَلَامِ الْقُدُورِيِّ الْإِبَاحَةُ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ تَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ بِمَالٍ: وَإِبَاحَةُ الْأَخْذِ مِنْهَا مَشْرُوطَةٌ بِمُشَاقَّتِهَا فَهُوَ مُعْتَبَرٌ شَرْطًا فِي ذَلِكَ.
قولهُ: (فَإِذَا فَعَلَا ذَلِكَ وَقَعَ بِالْخُلْعِ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ وَلَزِمَهَا الْمَالُ) هَذَا حُكْمُ الْخُلْعِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأَئِمَّةِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَذَهَبَ الْمَزْنِيُّ إلَى أَنَّ الْخُلْعَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ أَصْلًا، وَقِيدَتْ الظَّاهِرِيَّةُ صِحَّتَهُ بِمَا إذَا كَرِهَتْهُ وَخَافَ أَنْ لَا يُوَفِّيَهَا حَقَّهَا أَوْ أَنْ لَا تُوَفِّيَهُ حَقَّهُ وَمَنَعَتْهُ إذَا كَرِهَهَا هُوَ.
وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِذْنِ السُّلْطَانِ، رُوِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ.
وَقَالَتْ الْحَنَابِلَةُ: لَا يَقَعُ بِالْخُلْعِ طَلَاقٌ بَلْ هُوَ فَسْخٌ بِشَرْطِ عَدَمِ نِيَّةِ الطَّلَاقِ لَا يَنْقُصُ عَدَدَ الطَّلَاقِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: يَقَعُ وَيَكُونُ رَجْعِيًّا، فَإِنْ رَاجَعَهَا رَدَّ الْبَدَلَ الَّذِي أَخَذَهُ، رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: فَكَانَ الزُّهْرِيُّ يَقول ذَلِكَ.
وَجْهُ قول الْمَزْنِيِّ إنَّ قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} نُسِخَ حُكْمُهَا بِقولهِ تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} أُجِيبَ بِأَنَّهُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِتَأَخُّرِ هَذِهِ وَعَدَمِ إمْكَانِ الْجَمْعِ، وَالْأَوَّلُ مُنْتَفٍ، وَكَذَا الثَّانِي، وَلِأَنَّ هَذَا النَّهْيَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا إذَا أَرَادَ الزَّوْجُ اسْتِبْدَالَ غَيْرِهَا مَكَانَهَا، وَالْآيَةُ الْأُخْرَى مُطْلَقَةٌ فَكَيْفَ تَكُونُ هَذِهِ نَاسِخَةٌ لَهَا مُطْلَقًا؟ نَعَمْ لَوْ أَرَادَ بِالنَّسْخِ تَقَدُّمَ حُكْمِهَا عَلَى الْمُطْلَقَةِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ: أَعْنِي صُورَةَ إرَادَةِ الزَّوْجِ الِاسْتِبْدَالَ بِهَا مِنْ غَيْرِ نُشُوزٍ مِنْهَا كَانَ حَسَنًا.
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يَجِبُ تَقْدِيمُ هَذَا الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ وَهُوَ حِينَئِذٍ وَجْهُ مَذْهَبِ الظَّاهِرِيَّةِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْجَوَابُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَقْدِيمِ الْخَاصِّ مُطْلَقًا.
فَالْجَوَابُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ مِمَّا يَجِبُ فِيهِ تَقْدِيمُ الْخَاصِّ عِنْدَنَا.
لِأَنَّا إذَا قُلْنَا: يَتَعَارَضَانِ كَانَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ حِينَئِذٍ وُجُوبُ التَّرْجِيحِ إذَا أَمْكَنَ، وَالتَّرْجِيحُ يَثْبُتُ لِلْمُحَرَّمِ عَلَى الْمُبِيحِ لِأَنَّ فِيهِ الِاحْتِيَاطُ وَهُوَ هُنَا فِي تَقْدِيمِ الْخَاصِّ فَيَجِبُ أَنْ يُقَدَّمَ هَذَا الْخَاصُّ هُنَا بِحُكْمِ الْمُعَارَضَةِ لَا بِحُكْمِ التَّخْصِيصِ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ قَدَّمْنَا فِيهِ الْعَامَّ عَلَى الْخَاصِّ عِنْدَ تَعَارُضِهِمَا فِي ذَلِكَ الْفَرْدِ كَانَ لِثُبُوتِ الِاحْتِيَاطِ بِسَبَبِ كَوْنِ حُكْمِ الْعَامِّ مَنْعًا وَالْخَاصُّ يَخْرُجُ مِنْهُ بَعْضُ الْأَفْرَادِ كَمَا فِي «لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ» مَعَ قولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ» وَإِيجَابًا كَقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» مَعَ قولهِ «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» وَإِلَّا فَنَفْسُ كَوْنِهِ عَامًّا لَا يَقْتَضِي التَّقَدُّمَ لَعَيْنِ مَفْهُومِهِ، بَلْ لِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ الِاحْتِيَاطِ، بَلْ الْجَوَابُ الْقول بِمُوجِبِهَا وَهُوَ عَدَمُ حَلِّ الْأَخْذِ إذَا كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلَهُ، وَهُوَ مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ بِقولهِ كَرِهَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ: يَعْنِي كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ الْمُنْتَهِضَةِ سَبَبًا لِلْعِقَابِ.
وَإِنْ قَالَ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ فِي جَوَابِهِمْ: تَأْوِيلُ الْآيَةِ فِي الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ لَا فِي مَنْعِ وُجُوبِ الْمَالِ وَتَمَلُّكِهِ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لَا تَثْبُتُ مَعَ مُعَارَضَةِ مُوجِبِهَا، فَإِنَّ الْمُعَارَضَةَ تَنْفِي الْقَطْعِيَّةَ لِتَطَرُّقِ احْتِمَالِ نَسْخِهَا بِالْمُعَارِضِ، لَكِنَّهُ أَرَادَ مَا ذَكَرْنَا، وَسَيَأْتِي مَا هُوَ الْحَقُّ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَجْهُ قول الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ مَا رَوَى عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْخُلْعُ فُرْقَةٌ وَلَيْسَتْ بِطَلَاقٍ.
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْهُ.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ: لَوْ طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمَّ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ حَلَّ لَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا، قَالُوا: ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الطَّلَاقَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ وَفِي آخِرِهَا وَالْخُلْعُ بَيْنَهُمَا.
وَرَوَى نَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رُبَيِّعَ بِنْتَ مُعَوِّذٍ ابْنِ عَفْرَاءَ تُخْبِرُ ابْنَ عُمَرَ أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا عَلَى عَهْدِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَجَاءَ عَمُّهَا إلَى عُثْمَانَ فَقَالَ إنَّ ابْنَةَ مُعَوِّذٍ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا الْيَوْمَ أَفَتَنْتَقِلُ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ: لِتَنْتَقِلْ وَلَا مِيرَاثَ بَيْنَهُمَا وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا إلَّا أَنَّهَا لَا تُنْكَحُ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ بِهَا حَبَلٌ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: عُثْمَانُ خَيْرُنَا وَأَعْلَمُنَا، فَهَؤُلَاءِ أَرْبَعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّ رُبَيِّعَ وَعَمَّهَا صَحَابِيَّانِ، قَالُوا بِذَلِكَ، وَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا بِالْآيَةِ، قَالَ تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} إلَى أَنْ قَال: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ طَلَّقَهَا: يَعْنِي الثَّالِثَةَ الْمُفَادَ شَرْعِيَّتُهَا بِقولهِ تعالى: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ مِنْ التَّقْرِيرِ فِي فَصْلٍ فِيمَا تَحِلُّ بِهِ الْمُطَلَّقَةُ فَيَكُونُ الِافْتِدَاءُ غَيْرَ طَلَاقٍ، وَإِلَّا كَانَ الطَّلَاقُ أَرْبَعًا وَالثَّانِي مُنْتَفٍ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ يَقْبَلُ الْفَسْخَ.
وَقَدْ تَحَقَّقَ فَسْخُهُ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ وَالْعِتْقِ وَعَدَمِ الْكَفَاءَةِ فَلَا مَانِعَ مِنْ كَوْنِهِ كَذَلِكَ فِي الِافْتِدَاءِ.
قُلْنَا: أَمَّا هَذَا الْأَخِيرُ فَحَاصِلُهُ أَنَّهُ وَجْهٌ مُجَوَّزٌ لِكَوْنِهِ فَسْخًا لَا يُوجِبُ كَوْنَ الْوَاقِعِ فِي الْوَاقِعِ أَحَدُ الْجَائِزَيْنِ بِعَيْنِهِ وَهُوَ أَنَّهُ فَسْخٌ أَوْ طَلَاقٌ فَلَا يُفِيدُ.
وَأَمَّا الْآيَةُ فَبِالنَّظَرِ إلَى نَفْسِ التَّرْكِيبِ يُفِيدُ بُعْدَ غَايَةِ التَّنَزُّلِ أَنَّ الِافْتِدَاءَ فُرْقَةٌ لَيْسَ غَيْرُ.
فَإِنَّ حَاصِلَ الثَّابِتِ بِهِ كَوْنُهُ تَعَالَى بَعْدَ مَا أَفَادَ شَرْعِيَّةَ الثَّلَاثِ وَبَيَّنَ ذَلِكَ نَصَّ عَلَى حُكْمٍ آخَرَ هُوَ جَوَازُ دَفْعِهَا الْبَدَلِ تَخَلُّصًا مِنْ قَيْدِ النِّكَاحِ وَأَخَذَهُ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِكَوْنِهِ غَيْرُ طَلَاقٍ أَوْ طَلَاقًا هُوَ الثَّالِثَةُ أَوَّلًا فَتَعَيَّنَ أَخْذُهَا مِنْ خَارِجٍ أَلْبَتَّةَ، وَهَذَا أَوْجُهُ مِنْ قولهِمْ بَيَّنَ الثَّالِثَةَ بَعُوضٍ وَبِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ الْجَوَابَ إلَيْهِ كَمَا سَمِعْت، وَلِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَشْرَعَ الْخُلْعُ إلَّا بَعْدَ ثِنْتَيْنِ، بَلْ إنَّمَا نَصَّ عَلَى شَرْعِيَّةِ الثَّلَاثِ وَبَيَّنَ حُكْمًا آخَرَ هُوَ جَوَازُ الِافْتِدَاءِ عَنْ مِلْكِ النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ عَنْ عُثْمَانَ فَبِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ لَيْسَ فِيهِ سِوَى أَنَّهُ قَالَ: لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَلَا تُنْكَحُ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً.
وَأَصْلُ هَذَا مَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةٍ» فَسَمَّى الْحَيْضَةَ عِدَّةً.
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.
ثُمَّ رَأَيْنَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ فِي خُلْعِ امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ بِأَنَّهَا طَلْقَةٌ عَلَى مَا فِي الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ لَه: «اقْبَلْ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً» فَقول عُثْمَانَ: لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا: يَعْنِي الْعِدَّةَ الْمَعْهُودَةَ لِلْمُطَلَّقَاتِ، وَلِلشَّارِعِ وِلَايَةُ الْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ، فَهَذَا يُفِيدُك بِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ عَدَمَ التَّلَازُمِ بَيْنَ عَدَمِ الْعِدَّةِ وَكَوْنِهِ فَسْخًا، عَلَى أَنَّ الَّذِي تَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ هَذَا هُوَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ رُبَيِّعَ بِنْتَ مُعَوِّذٍ جَاءَتْ هِيَ وَعَمُّهَا إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا فِي زَمَانِ عُثْمَانَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُثْمَانَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: عِدَّتُهَا أَوْ عِدَّتُكِ عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ.
وَقَالَ: بَلَغَنَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسُلَيْمَانَ بْن يَسَارٍ وَابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقولونَ: عِدَّةُ الْمُخْتَلِعَةِ ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ.
وَقولهُمْ إنَّهُ قول أَرْبَعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مَمْنُوعٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ اتَّصَفَ بِاسْمِ الصَّحَابِيِّ يَتَّبِعُ أَقْضِيَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآيَ الْأَحْكَامِ وَعِلْمَ الْمُتَأَخِّرِ وَالْمُتَقَدِّمِ وَصَارَ أَهْلًا لِلِاجْتِهَادِ بَلْ يُقَلِّدُ بَعْضَهُمْ مَنْ اتَّصَفَ بِذَلِكَ، وَظَاهِرُ حَالِ رُبَيِّعَ وَعَمِّهَا ذَلِكَ، فَإِنَّهُمَا قَدْ اسْتَفْتَيَا عُثْمَانَ فَقَالَ لَهُمَا مَا قَالَ فَاعْتَقَدَاهُ، فَلَيْسَ فِي الْمَعْنَى إلَّا قول صَحَابِيِّينَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قول أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَهَذَا لَوْ ثَبَتَ التَّلَازُمُ بَيْنَ نَفْيِ الْعِدَّةِ وَكَوْنِهِ فَسْخًا وَهُوَ مُنْتَفٍ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا قول ابْنِ عَبَّاسٍ، وَذَلِكَ مَا رَوَى مَالِكٌ عَنْ أُمِّ بَكْرَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا فَارْتَفَعَا إلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَجَازَ ذَلِكَ وَقَالَ: هِيَ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ إلَّا أَنْ تَكُونِي سَمَّيْت شَيْئًا فَهُوَ عَلَى مَا سَمَّيْت.
وَلَا نَعْرِفُهُ فِيهِ إلَّا أَنَّ جُمْهَانَ لَمْ يَعْرِفْهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَرَدَّ الْحَدِيثَ لِذَلِكَ، وَهُوَ جُمْهَانُ أَبُو يَعْلَى، وَأَبُو يَعْلَى مَوْلَى الْأَسْلَمِيِّينَ، وَيُقَالُ مَوْلَى يَعْقُوبَ الْقِبْطِيِّ يُعَدُّ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ تَابِعِيًّا.
رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأُمِّ بَكْرَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ.
وَرَوَى عَنْهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَمُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيِّ وَغَيْرُهُمَا، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ: هُوَ جَدُّ جَدَّةِ عَلِيِّ بْن الْمَدِينِيِّ فَهِيَ ابْنَةُ عَبَّاسِ بْنِ جُمْهَانَ، رَوَى لَهُ ابْنُ مَاجَهْ حَدِيثًا وَاحِدًا فِي الصَّوْمِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «لِكُلِّ شَيْءٍ زَكَاةٌ، وَزَكَاةُ الْجَسَدِ الصَّوْمُ، وَالصَّوْمُ نِصْفُ الصَّبْرِ» فَلِهَذَا صَرَّحَ أَصْحَابُنَا بِنَقْلِ مَذْهَبِنَا عَنْ عُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، ثُمَّ يُعَارِضُهُ قول غَيْرِهِ، بَلْ وَالْمَرْوِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَسْنَدَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ هَاشِمٍ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَا تَكُونُ طَلْقَةً بَائِنَةً إلَّا فِي فِدْيَةٍ أَوْ إيلَاءٍ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا وَتَقَدَّمَ مَا رَوَيْنَاهُ عَنْ عُثْمَانَ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي عَاصِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الْخُلْعَ تَطْلِيقَةً» وَمَرَاسِيلُ سَعِيدٍ لَهَا حُكْمُ الْوَصْلِ الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَكِبَارُ التَّابِعِينَ قَلَّ أَنْ يُرْسِلُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا عَنْ صَحَابِيٍّ وَإِنْ اتَّفَقَ غَيْرُهُ نَادِرًا فَعَنْ ثِقَةٍ، هَكَذَا تَتَبَّعْت مَرَاسِيلَهُ، وَبِهِ يَقْوَى ظَنُّ حُجِّيَّةِ مَا رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «الْخُلْعُ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ» وَكَذَا مَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَسَكَتَ عَلَيْهِ وَابْنُ عَدِيٍّ وَأَعَلَّهُ بِعَبَّادِ بْنِ كَثِيرِ الثَّقَفِيِّ مِنْ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الْخُلْعَ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً» وَإِنْ كَانَ لَا يَصِحُّ عَلَى طَرِيقِ أَهْلِ الشَّأْنِ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالضَّعْفِ إنَّمَا هُوَ ظَاهِرٌ مَعَ احْتِمَالِ الصِّحَّةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَجَازَ أَنْ يَقُومَ دَلِيلُ الصِّحَّةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَعَ الضَّعْفِ فِي الظَّاهِرِ.
وَهَاهُنَا نَظَرٌ عَلَى أُصُولِنَا، وَهُوَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رَوَى حَدِيثَ امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ عَلَى مَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ لَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي دِينٍ وَلَا خُلُقٍ وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْبَلْ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً» ثُمَّ إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ بِأَنَّهُ فَسْخٌ، وَعَمَلُ الرَّاوِي عِنْدَنَا بِخِلَافِ رِوَايَتِهِ يَنْزِلُ مَنْزِلَ رِوَايَتِهِ لِلنَّاسِخِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ رُجُوعُهُ كَمَا قَالُوا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنَّ ثَابِتًا طَلَّقَهَا امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَبْقَى مِنْ مَحِلِّ النِّزَاعِ وَهُوَ الْخُلْعُ، بَلْ يَصِيرُ طَلَاقًا عَلَى مَالٍ، فَقول ابْنِ عَبَّاسٍ بَعْدَ ذَلِكَ: الْخُلْعُ فَسْخُ كَلَامٍ فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى فَحِينَئِذٍ مَا يَأْتِي مِنْ تَسْمِيَةِ الرَّاوِي لَهُ خُلْعًا حَيْثُ قَالَ: وَكَانَ أَوَّلُ خُلْعٍ فِي الْإِسْلَامِ يَعْنِي أَوَّلَ طَلَاقٍ بِمَالٍ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلِّقْهَا امْتَثَلَ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَلَّقَ، وَكَثِيرًا مَا يُطْلَقُ الْخُلْعُ عَلَى الطَّلَاقِ بِمَالٍ.
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْأَظْهَرُ مِنْ قول الصَّحَابَةِ مَا قُلْنَاهُ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْمَرْفُوعِ الصَّرِيحِ الَّذِي لَا يُقَاوِمُهُ النَّقْلُ التَّقْدِيرِيُّ، وَلَوْ تَرَكْنَا الْكُلَّ يَتَعَارَضُ وَرَجَعْنَا إلَى النَّظَرِ فِي الْمَعْنَى أَفَادَ مَا قُلْنَاهُ فَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقولهِ (وَلِأَنَّهُ) أَيْ الْخُلْعُ (مِنْ الْكِنَايَاتِ) حَتَّى لَوْ قَالَ خَلَعْتُك يَنْوِي الطَّلَاقَ وَقَعَ الطَّلَاقُ الْبَائِنُ عِنْدَنَا، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْخُلْعِ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْكِنَايَاتِ أَنَّهَا عَوَامِلُ بِحَقَائِقِهَا وَالنِّكَاحُ قَائِمٌ بِالرُّجْعَى فَلَمْ يَنْخَلِعْ، ثُمَّ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ ذَلِكَ إلَّا بِذِكْرِ الْمَالِ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي خُرُوجَهُ عَنْ حَالِهِ، وَأَيْضًا هَذِهِ فُرْقَةٌ بَعْدَ تَمَامِ النِّكَاحِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ كَوْنِهَا طَلَاقًا لِأَنَّهُ هُوَ الْمَعْهُودُ وَالْحَمْلُ عَلَى مَا عَهِدَ وَاجِبٌ حَتَّى يَدُلَّ عَلَى خِلَافِهِ دَلِيلٌ وَلَمْ يَثْبُتْ كَمَا أَرَيْنَاك.
وَالْفُرْقَةُ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ وَالْعِتْقِ وَعَدَمِ الْكَفَاءَةِ قَبْلَ تَمَامِهِ لِأَنَّ النِّكَاحَ فِيهِ خِيَارٌ إذَا بَلَغَتْ وَعَتَقَتْ وَخِيَارُ الْمُولِي فَكَانَ ذَلِكَ امْتِنَاعًا عَنْ إتْمَامِهِ مَعْنًى، وَأَيْضًا مِلْكُ النِّكَاحِ ضَرُورِيٌّ لِأَنَّهُ وَارِدٌ عَلَى الْحُرَّةِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَهُوَ اسْتِيفَاءُ مَنَافِعِ الْبِضْعِ فَيَنْتَفِي هَذَا الْمِلْكُ فِي حَقِّ الْفَسْخِ، وَأَمَّا وَجْهُ مَنْ قَالَ لَا بُدَّ مِنْ إذْنِ الْإِمَامِ فَلَمْ أَرَهُ، وَيَظْهَرُ أَنَّ قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} فَإِنَّهُ تَعَالَى شَرَعَهُ مَشْرُوطًا لِخَوْفِ الْأَئِمَّةِ وَالْحُكَّامِ إذْ هُمْ الْمُخَاطَبُونَ بِقولهِ تَعَالَى فَإِنْ خِفْتُمْ وَهَذَا فَرْعُ التَّرَافُعِ إلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ خِطَابُ (فَلَا تَأْخُذُوا) لِلْأَزْوَاجِ فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَغْرَبٍ فِي الْقُرْآنِ أَنْ يَكُونَ خِطَابَانِ يَتْلُو أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَالْمُخَاطَبُونَ بِأَحَدِهِمَا غَيْرُهُمْ بِالْآخِرِ.
وَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قِصَّةِ الرُّبَيِّعِ مِنْ الْمُوَطَّإِ يُفِيدُ أَنَّ الْخُلْعَ وَقَعَ دُونَ عِلْمِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ، وَكَذَا ابْنُ عُمَرَ حِينَ سَمِعَ بِهِ فَأَفَادَ عَدَمُ فَهْمِهِمَا ذَلِكَ.
فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ الْآيَةِ إذْنَ الْأَئِمَّةِ مِنْ تَمْكِينِهِمْ مِنْ الْخُلْعِ إذَا خَافُوا عَلَيْهِمَا عَدَمَ الْقِيَامِ بِالْمَوَاجِبِ فِيمَا إذَا ارْتَفَعُوا إلَيْهِمْ لَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّرَافُعِ إلَيْهِمْ، وَعَلَى اعْتِبَارِ هَذَا الْمَفْهُومِ يَمْنَعُونَهُمْ عِنْدَ عَدَمِ هَذَا الْخَوْفِ بِالْقول وَالْفَتْوَى، وَتَبَيَّنَ حِينَئِذٍ أَنَّهُ لَيْسَ مُبَاحًا لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «الْمُخْتَلِعَاتُ هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَفِيهِ وَفِي أَبِي دَاوُد عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا مِنْ غَيْرِ مَا بَأْسَ بِهِ لَمْ تَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ» لَا بِالْحُكْمِ بَعْدَ النَّفَاذِ وَالصِّحَّةِ إذَا وَقَعَ.
وَأَمَّا وَجْهُ مَنْ قَالَ إنَّهُ رَجْعِيٌّ فَذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِيهِ مَا لَا حَاصِلَ لَهُ، وَلَا غُبَارَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ فِيهِ وَهُوَ أَنَّهَا إنَّمَا بَذَلَتْ الْمَالَ لِتَسْلَمَ لَهَا نَفْسُهَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى شَرَعَ الِافْتِدَاءَ لِذَلِكَ، وَإِلَّا لَوْ كَانَ رَجْعِيًّا لَمْ يَحْصُلْ الْغَرَضُ الَّذِي شُرِعَ لِأَجَلِهِ وَلِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ، وَالزَّوْجُ قَدْ مَلَكَ الْمَالَ حُكْمًا لِصِحَّةِ هَذِهِ الْمُعَاوَضَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَمْلِكَ نَفْسَهَا حُكْمًا لَهَا تَحْقِيقًا لَهَا كَمَا فِي جَانِبِهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
قولهُ: (إلَّا أَنَّ ذِكْرَ الْمَالِ) اسْتِدْرَاكٌ مِمَّا يُتَوَهَّمُ لُزُومُهُ عَلَى قولهِ إنَّهُ كِنَايَةٌ مِنْ افْتِقَارِهِ إلَى النِّيَّةِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ إذَا أَنْكَرَهَا يَصْدُقُ قَضَاءً وَلَيْسَ كَذَلِكَ، قَالُوا: لَا يَصْدُقُ فِي لَفْظِ الْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ وَالْمُبَارَأَةِ وَالْبَيْعِ فِي عَدَمِ النِّيَّةِ عِنْدَ ذِكْرِ الْمَالِ بِأَنْ يَقول بَارَأْتُك عَلَى أَلْفٍ أَوْ بِعْت نَفْسَك أَوْ طَلَاقَك عَلَى أَلْفٍ وَعِنْدَ عَدَمِهِ يَصْدُقُ فِي إنْكَارِهَا قَضَاءً فِي الْخُلْعِ وَالْمُبَارَأَةِ لَا فِي لَفْظِ الطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ لِأَنَّهُمَا صَرِيحَانِ ذَكَرَهُ فِي الْكَافِي.
فَأَجَابَ بِأَنَّ ذِكْرَ الْمَالِ يُغْنِي عَنْهَا إذْ هُوَ قَرِينَةٌ ظَاهِرَةٌ: عَلَى إرَادَةِ الطَّلَاقِ إذْ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا بِسَبَبِهِ.

متن الهداية:
(وَإِنْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهِ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا عِوَضًا) لِقولهِ تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} إلَى أَنْ قَال: {فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} وَلِأَنَّهُ أَوْحَشَهَا بِالِاسْتِبْدَالِ فَلَا يَزِيدُ فِي وَحْشَتِهَا بِأَخْذِ الْمَالِ (وَإِنْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْهَا كَرِهْنَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا) وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ طَابَ الْفَضْلُ أَيْضًا لِإِطْلَاقِ مَا تَلَوْنَا بَدْءًا.
وَوَجْهُ الْأُخْرَى قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شِمَاسٍ «أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا» وَقَدْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْهَا (وَلَوْ أَخَذَ الزِّيَادَةَ جَازَ فِي الْقَضَاءِ) وَكَذَلِكَ إذَا أَخَذَ وَالنُّشُوزُ مِنْهُ لِأَنَّ مُقْتَضَى مَا تَلَوْنَا شَيْئَانِ الْجَوَازُ حُكْمًا وَالْإِبَاحَةُ، وَقَدْ تُرِكَ الْعَمَلُ فِي حَقِّ الْإِبَاحَةِ لِمُعَارِضٍ فَبَقِيَ مَعْمُولًا فِي الْبَاقِي.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهِ) كَرِهَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا لِقولهِ تعالى: {فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} نَهَى عَنْ الْأَخْذِ مِنْهَا عِنْدَ عَدَمِ نُشُوزِهَا وَكَوْنِهِ مِنْهُ.
وَتَقَدَّمَ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ ثُبُوتَ الْكَرَاهَةِ دُونَ التَّحْرِيمِ لِلْمُعَارِضَةِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ إذْ لَا مُعَارَضَةَ فِي التَّحْرِيمِ، فَإِنَّ إطْلَاقَ نَفْيِ الْجُنَاحِ فِي آيَةِ الْمُطَلَّقَةِ مُقَيَّدًا بِالْمُشَاقَّةِ فَإِنَّ الْآيَةَ هَكَذَا (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَخَافَا أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ، فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) وَالنَّهْيُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى مُقَيَّدٌ بِانْفِرَادِهِ بِالنُّشُوزِ فَلَا يَتَلَاقَيَانِ فَلَا تَعَارَضَ فِي حُرْمَةِ الْأَخْذِ.
عَلَى أَنَّهُ لَوْ تَعَارَضَا كَانَ التَّحْرِيمُ ثَابِتًا بِالْعُمُومَاتِ الْقَطْعِيَّةِ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى حُرْمَةِ أَخْذِ مَالِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَفِي إمْسَاكِهَا لَا لِرَغْبَةٍ بَلْ إضْرَارًا وَتَضْيِيقًا لِيَقْتَطِعَ مَالَهَا فِي مُقَابِلَةِ خَلَاصِهَا مِنْ الشِّدَّةِ الَّتِي هِيَ فِيهَا مَعَهُ ذَلِكَ وَقَالَ تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا}، {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} فَهَذَا دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ عَلَى حُرْمَةِ أَخْذِ مَالِهَا كَذَلِكَ فَيَكُونُ حَرَامًا إلَّا أَنَّهُ لَوْ أَخَذَ جَازَ فِي الْحُكْمِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ آخِرًا: أَيْ يَحْكُمُ بِصِحَّةِ التَّمَلُّكِ وَإِنْ كَانَ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ.
وَعَلَّلَهُ بِقولهِ (لِأَنَّ مُقْتَضَى مَا تَلَوْنَاهُ) يَعْنِي قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (شَيْئَانِ الْجَوَازُ حُكْمًا) يَعْنِي الصِّحَّةَ وَالنَّفَاذَ فِي الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ ذَكَرَهُ مُشَبَّهًا بِأَخْذِ الزِّيَادَةِ وَقَدْ قَالَ فِيهَا جَازَ فِي الْقَضَاءِ (وَالْإِبَاحَةُ وَقَدْ تَرَكَ فِي حَقِّ الْإِبَاحَةِ لِمُعَارِضٍ) وَهُوَ قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} الْآيَةُ فَبَقِيَ مَعْمُولًا بِهِ فِي الْبَاقِي: أَيْ الْجَوَازِ فِي الْقَضَاءِ.
لَا يُقَالُ: الْجَوَازُ هُوَ الْإِبَاحَةُ وَيَتَلَازَمَانِ وُجُودًا وَعَدَمًا.
لِأَنَّا نَقول: إنَّ مَعْنَى الْإِبَاحَةِ اسْتِوَاءُ الطَّرَفَيْنِ فَلَا أَجْرَ وَلَا وِزْرَ، وَمَعْنَى الْجَوَازِ مِنْ جَازَ: أَيْ مَرَّ.
وَبَعُدَ فَهُوَ النَّافِذُ شَرْعًا: أَيْ الصَّحِيحُ وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ سَبَبًا لِتَرَتُّبِ الْآثَارِ الشَّرْعِيَّةِ فَهُوَ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ مَعَ الْحِلِّ أَوْ الْحُرْمَةِ كَمَا فِي كُلِّ نَهْيٍ عَنْ أَمْرٍ شَرْعِيٍّ لَمْ يَقُمْ فِيهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لِعَيْنِهِ كَالْبَيْعِ وَقْتِ النِّدَاءِ وَالْبَيْعِ بِالْخَمْرِ فَلَا تَلَازُمَ، وَهُنَا كَذَلِكَ فَالْأَخْذُ حَرَامٌ فِي حَالِ عَدَمِ نُشُوزِهَا وَإِنْ كَانَ بِرِضَاهَا، وَلَوْ فَعَلَ كَانَ أَخْذُهُ سَبَبًا لِلتَّمَلُّكِ كَمَا فِي الْبَيْعِ فِيمَا قُلْنَا حَيْثُ يَمْلِكُ بِسَبَبٍ مَمْنُوعٍ.
لَا يُقَالُ: النَّهْيُ هُنَا عَنْ أَمْرٍ حِسِّيٍّ فَيُعْدَمُ وُجُودُهُ شَرْعًا فَيُخْرِجُهُ عَنْ انْتِهَاضِهِ سَبَبًا مُفِيدًا لِحُكْمِ الْمِلْكِ كَالنَّهْيِ عَنْ الزِّنَا، لِأَنَّ ذَلِكَ مُقْتَضَاهُ إذَا لَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لِغَيْرِهِ لَا لَعَيْنِهِ وَهُنَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لِزِيَادَةِ الْإِيحَاشِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقول: إذَا تُرِكَ فِي حَقِّ الْإِبَاحَةِ لِمُعَارِضٍ يَلْزَمُ انْتِفَاءُ النَّفَاذِ شَرْعًا وَذَلِكَ لِأَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى النَّفَاذِ لَيْسَ إلَّا دَلَالَةٌ الْتِزَامِيَّةٌ لِلْإِبَاحَةِ لِأَنَّ دَلَالَتَهُ الْمُطَابِقِيَّةَ عَلَى الْإِبَاحَةِ، إذْ هِيَ الْمَعْنَى الْمُطَابِقِيِّ لِنَفْيِ الْجُنَاحِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْإِبَاحَةِ النَّفَاذُ، فَإِذَا ارْتَفَعَتْ الْإِبَاحَةُ ارْتَفَعَتْ بِلَازِمِهَا إلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ آخَرُ عَلَى ثُبُوتِ النَّفَاذِ شَرْعًا وَهُوَ مَعْدُومٌ، وَعَلَى هَذَا يَظْهَرُ قول الظَّاهِرِيَّةِ.
قولهُ: (لِإِطْلَاقِ مَا تَلَوْنَا بَدْءًا) أَيْ أَوَّلًا وَهُوَ قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} يَعْنِي بِطَرِيقِ دَلَالَتِهِ لَا عِبَارَتِهِ، فَإِنَّ عِبَارَتَهُ رَفْعُ الْجُنَاحِ عِنْدَ مُشَاقَّتِهِمَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي مُشَاقَّتِهِمَا مُشَاقَّتَهُ، فَإِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا افْتَدَتْ بِهِ مُطْلَقًا فِيمَا فِيهِ مُشَاقَّةٌ مِنْهُ فَأَخْذُهُ ذَلِكَ فِيمَا لَا مُشَاقَّةَ مِنْهُ فِيهِ أَوْلَى.
قولهُ: (وَوَجْهُ الْأُخْرَى قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي امْرَأَةِ ثَابِتٍ إلَخْ) تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الزِّيَادَةِ، وَقَدْ رُوِيَتْ مُرْسَلَةٌ وَمُسْنَدَةٌ.
فَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي مَرَاسِيلِهِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ كُلُّهُمْ عَنْ عَطَاءٍ، وَأَقْرَبُ الْأَسَانِيدِ سَنَدُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَال: «جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْكُو زَوْجَهَا، فَقَالَ: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ الَّتِي أَصْدَقَكِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ وَزِيَادَةً، قَالَ: أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا» وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ كَذَلِكَ، وَقَالَ: وَقَدْ أَسْنَدَهُ الْوَلِيدُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْمُرْسَلُ أَصَحُّ.
وَأَخْرَجَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ «أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ بْنِ شَمَّاسٍ كَانَتْ عِنْدَهُ زَيْنَبُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ وَكَانَ أَصْدَقَهَا حَدِيقَةً فَكَرِهَتْهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ الَّتِي أَعْطَاكِ؟ قَالَتْ نَعَمْ وَزِيَادَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا وَلَكِنْ حَدِيقَتُهُ، قَالَتْ نَعَمْ، فَأَخَذَهَا وَخَلَّى سَبِيلَهَا».اهـ.
قَالَ سَمِعَهُ أَبُو الزُّبَيْرِ مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، ثُمَّ أَخْرَجَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «لَا يَأْخُذُ الرَّجُلُ مِنْ الْمُخْتَلِعَةِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا» وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ جَمِيلَةَ بِنْتَ سَلُولَ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: وَاَللَّهِ مَا أَعْتِبُ عَلَى ثَابِتٍ فِي دِينٍ وَلَا خُلُقٍ وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ لَا أُطِيقُهُ بُغْضًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَتْ نَعَمْ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا حَدِيقَتَهُ وَلَا يَزْدَادُ» وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَسَمَّاهَا فِيهِ حَبِيبَةَ بِنْتَ سَهْلٍ وَلَمْ يَذْكُرْ الزِّيَادَةَ، وَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَسَمَّاهَا حَبِيبَةَ بِنْتَ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيَّةَ، وَزَادَ فِيهِ: وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ خُلْعٍ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُ لَا شَكَّ فِي ثُبُوتِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ لِأَنَّ الْمُرْسَلَ حُجَّةٌ عِنْدَنَا بِانْفِرَادِهِ، وَعِنْدَ غَيْرِنَا إذَا اُعْتُضِدَ بِمُرْسَلٍ آخَرَ يُرْسِلُهُ مَنْ رَوَى عَنْ غَيْرِ رِجَالِ الْأَوَّلِ أَوْ بِمُسْنَدٍ كَانَ حُجَّةً.
وَقَدْ اُعْتُضِدَ هُنَا بِهِمَا جَمِيعًا وَظَهَرَ لَك الْخِلَافُ فِي اسْمِ الْمَرْأَةِ جَمِيلَةَ أَوْ حَبِيبَةَ أَوْ زَيْنَبَ، وَفِي اسْمِ أَبِيهَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ أَوْ سَلُولَ أَوْ سَهْلٍ وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ.
فَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ نُفَيْلٍ: أَنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ مُعَوِّذِ ابْنِ عَفْرَاءَ حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِكُلِّ شَيْءٍ تَمْلِكُهُ فَخُوصِمَ فِي ذَلِكَ إلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَأَجَازَهُ وَأَمَرَهُ بِأَخْذِ عِقَاصِ رَأْسِهَا فَمَا دُونَهُ.
وَذَكَرَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عُمَرَ جَاءَتْهُ مَوْلَاةٌ لِامْرَأَتِهِ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ لَهَا وَمِنْ كُلِّ ثَوْبٍ حَتَّى نَقَبَتْهَا.
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رُفِعَتْ إلَيْهِ امْرَأَةٌ نَشَزَتْ عَلَى زَوْجِهَا فَقَالَ اخْلَعْهَا وَلَوْ مِنْ قُرْطِهَا.
ذَكَرَهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ كَثِيرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ.
وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَأْخُذُ مِنْهَا فَوْقَ مَا أَعْطَاهَا.
وَرَوَاهُ وَكِيعٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ عِمْرَانَ الْهَمْدَانِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا.
وَقَالَ طَاوُسٌ: لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا.
وَأَوْرَدَ أَنَّ شَرْطَ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ أَنْ لَا يُعَارِضَ الْكِتَابَ وَهَذَا مُعَارِضٌ قوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} أُجِيبَ إذَا خُصَّ مِنْهُ شَيْءٌ أَوْ عُورِضَ بِنَصٍّ آخَرَ مِثْلِهِ خَرَجَ عَنْ الْقَطْعِيَّةِ فِي الْحُكْمِ فَيَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مَعَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إنْ كَانَ مُعَارِضًا لِنَصٍّ فَهُوَ مُوَافِقٌ لِآخَرَ وَهُوَ قوله تعالى: {فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} فَكَانَ فِي الْحَقِيقَةِ مُعَارَضَةَ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ فَجَازَ التَّمَسُّكُ بِهِ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِأَحَدِ النَّصَّيْنِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْأَخْذِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُقَيَّدٌ بِنُشُوزِهِ وَحْدِهِ وَإِطْلَاقُ الْأَخْذِ مِنْهَا قُيِّدَ بِنُشُوزِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَلَا تَعَارُضَ فَلَا تَخْصِيصَ، لِأَنَّ مَوْرِدَ الْعَامِ غَيْرُ صَادِقٍ عَلَى مَوْرِدِ الْخَاصِّ لِيَكُونَ خِلَافَ حُكْمِهِ فِي بَعْضِ مُتَنَاوِلَاتِهِ تَخْصِيصًا.
لَا يُقَالُ: أَخْذُ الزِّيَادَةِ أَيْضًا غَيْرُ مُتَنَاوِلٍ الْمُطَلَّقَةَ لِأَنَّهَا فِي نُشُوزِهِمَا وَنُشُوزُهَا وَحْدَهَا لَيْسَ نُشُوزَهُمَا.
لِأَنَّا نَقول: تَثْبُتُ إبَاحَةُ أَخْذِ الزِّيَادَةِ فِي نُشُوزِهَا وَحْدَهَا بِطَرِيقٍ أَوْلَى كَمَا بَيَّنَّا، وَعَلَى هَذَا فَيَظْهَرُ كَوْنُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ أَوْجَهَ.
نَعَمْ يَكُونُ أَخْذُ الزِّيَادَةِ خِلَافَ الْأَوْلَى، وَيَكُونُ مَحْمَلُ مَنْعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَابِتًا مِنْ أَنْ يَزْدَادَ الْحَمْلُ عَلَى مَا هُوَ الْأَوْلَى وَطَرِيقُ الْقُرْبِ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

متن الهداية:
(وَإِنْ طَلَّقَهَا عَلَى مَالٍ فَقَبِلَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَلَزِمَهَا الْمَالُ) لِأَنَّ الزَّوْجَ يَسْتَبِدُّ بِالطَّلَاقِ تَنْجِيزًا وَتَعْلِيقًا وَقَدْ عَلَّقَهُ بِقَبُولِهَا، وَالْمَرْأَةُ تَمْلِكُ الْتِزَامَ الْمَالِ لِوِلَايَتِهَا عَلَى نَفْسِهَا، وَمِلْكِ النِّكَاحِ مِمَّا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا كَالْقِصَاصِ (وَكَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا) لِمَا بَيَّنَّا وَلِأَنَّهُ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالنَّفْسِ وَقَدْ مَلَكَ الزَّوْجُ أَحَدَ الْبَدَلَيْنِ فَتَمْلِكُ هِيَ الْآخَرَ وَهِيَ النَّفْسُ تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ طَلَّقَهَا إلَخْ) صُورَتُهُ أَنْ يَقول أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ أَوْ بِأَلْفٍ، أَمَّا لَوْ قَالَ وَعَلَيْك أَلْفٌ فَقَبِلَتْ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَلَا يَلْزَمُهَا الْمَالُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا وَسَيَأْتِي، وَقولهُ فَقَبِلَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ: أَيْ غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ عَلَى الْأَدَاءِ وَلَزِمَهَا الْمَالُ فَيُطَالِبُهَا بِهِ إنْ كَانَتْ حُرَّةً أَوْ أَمَةً اخْتَلَعَتْ بِإِذْنِ سَيِّدِهَا حَتَّى تُبَاعَ فِيهِ، وَإِنْ اخْتَلَعَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا تُطَالَبُ إلَّا بَعْدَ الْعِتْقِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى جَعْلِ عَلَى لِلشَّرْطِ وَاعْتِبَارِ الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ الْقَبُولَ لَا الْأَدَاءَ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ حَيْثُ قَالَ وَقَدْ عَلَّقَهُ بِقَبُولِهَا وَالْمُعَيَّنُ لِذَلِكَ ذَكَرَهُ فِي مَقَامِ الْمُعَاوَضَةِ وَفِي الْمُعَاوَضَاتِ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِالْقَبُولِ لَا الْأَدَاءِ، وَإِلَى هُنَا يَتِمُّ التَّقْرِيرُ، وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْقَبُولِ فِي الْمَجْلِسِ.
وَزَادَ فِي النِّهَايَةِ قولهُ: وَلَوْ قُلْنَا بِتَعْلِيقَةِ بِالْأَدَاءِ كَانَتْ كَلِمَةُ (عَلَى) لِلشَّرْطِ الْمَحْضِ، وَهِيَ إنَّمَا كَانَتْ كَذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمُعَاوَضَاتِ كَمَا فِي قولهِ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَنْ تَدْخُلِي الدَّارَ: يَعْنِي أَنَّ تَعْلِيقَهُ بِالْأَدَاءِ يَخْرُجُ إلَى أَنَّ الْمَعْنَى إنْ أَدَّيْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَهُوَ الشَّرْطُ الْمَحْضُ وَهُوَ مُضِرٌّ فِي الْمُعَاوَضَاتِ لِاسْتِلْزَامِهِ تَعْلِيقَ الْبَيْعِ عَلَى أَدَاءِ الثَّمَنِ وَنَحْوِهِ.
وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمَحْضَةِ أَمَّا الْخُلْعُ فَلَيْسَ مَحْضُ مُعَاوَضَةٍ لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّهُ يَمِينٌ مِنْ جَانِبِهِ أَوْ الْجَانِبَيْنِ فَلَيْسَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ مُحْتَاجًا إلَيْهَا فِي التَّقْرِيرِ لِاسْتِغْنَاءِ الدَّلِيلِ عَنْ ذَلِكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ تَعْلِيقَ الْوُقُوعِ بِقَبُولِهَا بِحَيْثُ يَنْزِلُ بِمُجَرَّدٍ هُوَ فِيمَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ التَّحْقِيقُ أَمَّا فِيمَا يَحْتَمِلُ فَلَا، فَلِذَا اُخْتُلِفَ فِيمَا إذَا قَالَ خَلَعْت نَفْسَك مِنِّي بِكَذَا فَقَالَتْ قَبِلْت قِيلَ يَصِحُّ مُطْلَقًا، وَقِيلَ لَا يَصِحُّ مُطْلَقًا.
وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ: يَنْوِي الزَّوْجُ إنْ أَرَادَ بِهِ التَّحْقِيقَ دُونَ السَّوْمِ يَصِحُّ وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى.
قولهُ: (لِمَا بَيَّنَّا) يَعْنِي قولهُ وَلِأَنَّهَا لَا تُسْلِمُ الْمَالَ إلَّا لِتَسْلَمَ لَهَا نَفْسُهَا.
قولهُ: (وَهِيَ النَّفْسُ) أَنَّثَ ضَمِيرَ الْآخَرِ وَهُوَ مُذَكَّرٌ لِتَأْنِيثِ اسْمِهِ الْآخَرِ: أَعْنِي النَّفْسَ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِنْ بَطَلَ الْعِوَضُ فِي الْخُلْعِ مِثْلَ أَنْ يُخَالِعَ الْمُسْلِمُ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ مَيْتَةٍ فَلَا شَيْءَ لِلزَّوْجِ وَالْفُرْقَةُ بَائِنَةٌ، وَإِنْ بَطَلَ الْعِوَضُ فِي الطَّلَاقِ كَانَ رَجْعِيًّا) فَوُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي الْوَجْهَيْنِ لِلتَّعْلِيقِ بِالْقَبُولِ وَافْتِرَاقُهُمَا فِي الْحُكْمِ لِأَنَّهُ لَمَّا بَطَلَ الْعِوَضُ كَانَ الْعَامِلُ فِي الْأَوَّلِ لَفْظُ الْخُلْعِ وَهُوَ كِنَايَةٌ، وَفِي الثَّانِي الصَّرِيحُ وَهُوَ يَعْقُبُ الرَّجْعَةَ وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ لِلزَّوْجِ شَيْءٌ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا مَا سَمَّتْ مَالًا مُتَقَوِّمًا حَتَّى تَصِيرَ غَارَّةٌ لَهُ، وَلِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى إيجَابِ الْمُسَمَّى لِلْإِسْلَامِ وَلَا إلَى إيجَابِ غَيْرِهِ لِعَدَمِ الِالْتِزَامِ، بِخِلَافِ مَا إذَا خَالَعَ عَلَى خَلٍّ بِعَيْنِهِ فَظَهَرَ أَنَّهُ خَمْرٌ لِأَنَّهَا سَمَّتْ مَالًا فَصَارَ مَغْرُورًا، وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَاتَبَ أَوْ أَعْتَقَ عَلَى خَمْرٍ حَيْثُ تَجِبُ قِيمَةُ الْعَبْدِ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى فِيهِ مُتَقَوِّمٌ وَمَا رَضِيَ بِزَوَالِهِ مَجَّانًا، أَمَّا مِلْكُ الْبِضْعِ فِي حَالَةِ الْخُرُوجِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ عَلَى مَا نَذْكُرُ، وَبِخِلَافِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الْبِضْعَ فِي حَالَةِ الدُّخُولِ مُتَقَوِّمٌ، وَالْفِقْهُ أَنَّهُ شَرِيفٌ فَلَمْ يَشْرَعْ تَمَلُّكَهُ إلَّا بِعِوَضٍ إظْهَارًا لِشَرَفِهِ، فَأَمَّا الْإِسْقَاطُ فَنَفْسُهُ شَرَفٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى إيجَابِ الْمَالِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ بَطَلَ الْعِوَضُ فِي الْخُلْعِ إلَخْ) حَاصِلُهُ أَنَّهُ إذَا شَرَطَ فِي الْفُرْقَةِ عِوَضًا غَيْرَ مُتَقَوِّمٍ حَتَّى بَطَلَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوقِعًا بِلَفْظِ الْخُلْعِ أَوْ الطَّلَاقِ، فَفِي الْخُلْعِ يَقَعُ بَائِنًا، وَفِي الطَّلَاقِ يَقَعُ رَجْعِيًّا إنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا وَهِيَ دُونَ الثَّلَاثِ، وَتَرَكَ الْمُصَنِّفُ التَّقْيِيدَ بِهِمَا لِاشْتِهَارِ الْحَالِ فِي الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، وَطَلَاقِ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا بِحَيْثُ لَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ، وَفِيهِمَا مَعًا لَا يَجِبُ شَيْءٌ لِلزَّوْجِ.
وَجْهُ الْحُكْمِ الشَّامِلِ أَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ فِي الْخُرُوجِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ وَلِذَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فِي الطَّلَاقِ إجْمَاعًا وَإِبَاحَةُ الِافْتِدَاءِ لَيْسَ وَضْعًا لِتَقَوُّمِهِ شَرْعًا وَإِلَّا لَتَعَيَّنَتْ الْقِيمَةُ وَلَوْ بِالنَّوْعِ كَمَهْرِ الْمِثْلِ، فَإِذَا سَمَّى غَيْرَ الْمُتَقَوِّمِ فِي غَيْرِ الْمُتَقَوِّمِ كَانَ رَاضِيًا بِسُقُوطِهِ مَجَّانًا.
وَجْهُ الِافْتِرَاقِ أَنَّ لَفْظَ الْخُلْعِ مِنْ الْكِنَايَاتِ الَّتِي لَهَا دَلَالَةٌ عَلَى قَطْعِ الْوَصْلَةِ لِأَنَّهُ مِنْ خَلَعَ الْخُفَّ وَالنَّعْلَ وَالْقَمِيصَ، وَقَدَّمْنَا أَنَّ الْكِنَايَاتِ عَوَامِلُ بِحَقَائِقِهَا، كَمَا أَفَادَ حَقِيقَتَهُ، مِنْهَا قَطْعُ الْوَصْلَةِ كَانَ الْوَاقِعُ بِهِ بَائِنًا وَمَا لَا فَرَجْعِيٌّ، وَلَفْظُ الْخُلْعِ مِنْ الْأَوَّلِ، بِخِلَافِ لَفْظِ اعْتَدِّي وَاسْتَبْرِئِي رَحِمَك وَأَنْتِ وَاحِدَةٌ عَلَى مَا سَلَف فَإِنَّمَا يَقَعُ بِهَا رَجْعِيٌّ، وَلَفْظُ الطَّلَاقِ صَرِيحٌ لَا يَقْتَضِي الْبَيْنُونَةَ، وَلَوْلَا ثُبُوتُ هَذَا الِاعْتِبَارِ عِنْدَنَا فِي الْكِنَايَاتِ لَقُلْنَا بِالرُّجْعَى فِيهَا كَقول مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَالشَّافِعِيِّ يُخَالِفُنَا فِي هَذَا الِاعْتِبَارِ فِي الْكِنَايَاتِ عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ فِيهَا، وَقَالَ هُنَا إنَّ الْوَاقِعَ بَائِنٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُوجِبُ فِيهِ رَدُّ مَهْرِ مِثْلِهَا قِيَاسًا عَلَى بُطْلَانِ الْعِوَضِ فِي الْمَهْرِ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ مَعَ الْفَارِقِ، فَإِنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ الْبِضْعَ مُتَقَوِّمًا حَالَةَ الدُّخُولِ، حَتَّى لَوْ سَكَتَا عَنْ الْمَهْرِ لَزِمَتْ قِيمَتُهُ وَهِيَ مَهْرُ الْمِثْلِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ مُتَقَوِّمًا حَالَةَ الْخُرُوجِ لَمَا بَيَّنَّا فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ بُطْلَانِ الْعِوَضِ لُزُومُ الْقِيمَةِ.
وَفِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ: لَوْ خَلَعَهَا عَلَى حَلَالٍ وَحَرَامٍ فَخَمْرٌ وَمَالٌ صَحَّ وَلَا يَجِبُ لَهُ إلَّا الْمَالُ قِيلَ هُوَ قِيَاسُ قول أَصْحَابِنَا وَهُوَ صَحِيحٌ.
وَفِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ: خَالَعَهَا عَلَى عَبْدِ نَفْسِهِ لَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ لِأَنَّهُ مَالٌ لَا تَسْتَحِقُّهُ بِحَالٍ، وَعُرِفَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ اقْتِصَارَهُ عَلَى قولهِ لِأَنَّهُ مِنْ الْكِنَايَاتِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْبَيْنُونَةَ.
قولهُ: (بِخِلَافِ مَا إذَا خَالَعَ عَلَى خَلٍّ بِعَيْنِهِ لِأَنَّهَا سَمَّتْ مَا هُوَ مَالٌ وَهُوَ لَيْسَ بِمَالٍ فَيَصِيرُ مَغْرُورًا) فَيَرْجِعُ عَلَيْهَا؛ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تُرَدُّ مَهْرَهَا، وَعِنْدَهُمَا مِثْلُ كَيْلِ الْخَمْرِ خَلًّا وَسَطًا كَمَا فِي الصَّدَاقِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْمَهْرِ، وَلَوْ عَلِمَ الزَّوْجُ بِكَوْنِهِ خَمْرًا لَا شَيْءَ لَهُ.
(وَقولهُ وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَاتَبَ أَوْ أَعْتَقَ عَلَى خَمْرٍ) أَوْ نَحْوِهِ مِمَّا هُوَ مَالٌ لَكِنَّهُ سَاقِطُ التَّقَوُّمِ.
وَاحْتُرِزَ بِهِ عَمَّا لَوْ كَاتَبَ عَلَى مَيْتَةٍ أَوْ دَمٍ فَإِنَّ الْكِتَابَةَ حِينَئِذٍ بَاطِلَةٌ، حَتَّى لَوْ أَدَّى الْمَيِّتَةَ أَوْ الدَّمَ لَا يَعْتِقُ وَهَاهُنَا فَاسِدَةٌ، فَلَوْ أَدَّى الْخَمْرَ عَتَقَ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ نَفْسِهِ (لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى فِيهِ مُتَقَوِّمٌ) وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ بَدَلِ الْعِتْقِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ كَثَمَنِهِ ابْتِدَاءً (وَمَا رَضِيَ بِزَوَالِهِ مَجَّانًا) لِأَنَّهُ لَوْ رَضِيَ لَنَجِزَ عِتْقُهُ ابْتِدَاءً فَتَسْمِيَةُ مَالِ غَيْرِ مُتَقَوِّمٍ فِي الْمُتَقَوِّمِ لَا يَسْتَلْزِمُ رِضَاهُ بِلَا عِوَضٍ، وَالْعِتْقُ لَا يَتَوَقَّفُ بَعْدَ وُجُودِهِ فَيَنْزِلُ وَلَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ، وَلَا إيجَابُ الْمُسَمَّى لِفَسَادِهِ وَلَا وُقُوعُهُ بِلَا بَدَلٍ لِمَا ذَكَرْنَا فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ مَا احْتَبَسَ عِنْدَهُ مِنْ مِلْكِ الْمَوْلَى وَهُوَ قِيمَةُ نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ إذَا تَعَذَّرَ الْبَدَلُ فِي مَوْضِعِ لُزُومِهِ تَجِبُ قِيمَةُ الْمُبْدَلِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقول: إنْ عَنَى بِكَوْنِ الْعَبْدِ مُتَقَوِّمًا عِنْدَ الْخُرُوجِ أَوْ حَالَةَ الْبَقَاءِ لُزُومَ قِيمَتِهِ عِنْدَ خُرُوجِهِ شَرْعًا فَمَمْنُوعٌ، وَإِنْ عَنَى إمْكَانَ الِاعْتِيَاضِ فَالْبِضْعُ كَذَلِكَ حَالَةَ الْخُرُوجِ، فَلَا يُفِيدُ هَذَا الْفَرْقُ فِي الرُّجُوعِ بَيْنَهُمَا فِي تَسْمِيَةِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ.
وَالْجَوَابُ الْمُرَادُ أَمْرٌ ثَالِثٌ وَهُوَ كَوْنُهُ لَهُ قِيمَةٌ فِي الْوَاقِعِ بِأَنَّ الشَّرْعَ قَوَّمَ أَوَّلًا بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ وَلَيْسَ هَذَا فِي الْبِضْعِ حَالَةَ الْخُرُوجِ.
قولهُ: (وَالْفِقْهُ فِيهِ) أَيْ فِي لُزُومِ تَقَوُّمِهِ عِنْدَ الدُّخُولِ دُونَ الْخُرُوجِ (أَنَّهُ) أَيْ الْبِضْعَ (شَرِيفٌ فَلَمْ يُشْرَعْ تَمْلِكُهُ إلَّا بِعِوَضٍ، فَأَمَّا الْإِسْقَاطُ فَنَفْسُهُ شَرَفٌ) أَيْ يَحْصُلُ بِهِ شَرَفُ الْبِضْعِ لِلتَّخَلُّصِ بِهِ مِنْ الْمَمْلُوكِيَّةِ (فَلَا حَاجَةَ إلَى إيجَابِ الْمَالِ) إذَا لَمْ يَجِبْ إلَّا هَذَا الْغَرَضُ وَهُوَ حَاصِلٌ هُنَا بِدُونِهِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا جَازَ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا فِي الْخُلْعِ) لِأَنَّ مَا يَصْلُحُ عِوَضًا لِلْمُتَقَوِّمِ أَوْلَى أَنْ يَصْلُحَ عِوَضًا لِغَيْرِ الْمُتَقَوِّمِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا جَازَ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا فِي الْخُلْعِ) وَلَا يَنْعَكِسُ كُلِّيًّا، فَالصَّادِقُ بَعْضُ مَا جَازَ بَدَلَ خُلْعٍ جَازَ كَوْنُهُ مَهْرًا وَالْبَعْضُ لَا كَالْأَقَلِّ مِنْ الْعَشَرَةِ وَمَا فِي يَدِهَا، وَمَا فِي بَطْنِ غَنَمِهَا وَمَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهَا يَجُوزُ وَلَهُ مَا فِي بُطُونِهَا، وَلَا يَجُوزُ مَهْرًا بَلْ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ.
وَالْفَرْقُ أَنَّ مَا فِي الْبَطْنِ لَيْسَ مَالًا فِي الْحَالِ بَلْ فِي الْمَآلِ فَكَانَ تَعْلِيقًا بِالِانْفِصَالِ مِنْ الْبَطْنِ، وَأَحَدِ الْعِوَضَيْنِ وَهُوَ الطَّلَاقُ هُنَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ، فَكَذَا الْآخَرُ: أَعْنِي الْمَالَ، وَلَا يَقْبَلُهُ مَا يُقَابِلُ الْمَالَ هُنَاكَ وَهُوَ مِلْكُ النِّكَاحِ فَكَذَلِكَ عِوَضُهُ الْآخَرُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي بُطُونِهَا شَيْءٌ حَالَةَ الْخُلْعِ فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَمَا حَدَثَ فِي الْبَطْنِ بَعْدَ الْخُلْعِ لَهَا لَا لَهُ لِأَنَّهَا غَيْرُ غَارَّةٍ، إذْ مَا فِي الْبَطْنِ لَمْ يَتَعَيَّنْ كَوْنُهُ مَالًا إذَا ظَهَرَ لِجَوَازِ كَوْنِهِ رِيحًا أَوْ مَيِّتَةً فَلَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ.
وَيَصِحُّ التَّأْجِيلُ فِي بَدَلِ الْخُلْعِ مَعَ جَهَالَةٍ مُسْتَدْرَكَةٍ كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ لَا الْفَاحِشَةِ كَالْمَطَرِ وَهُبُوبِ الرِّيحِ وَالْمَيْسَرَةِ، وَحَيْثُ لَا يَصِحُّ التَّأْجِيلُ يَجِبُ الْمَالُ حَالًا، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ إسْقَاطًا حَتَّى جَازَ تَعْلِيقُهُ وَخُلُوُّهُ مِنْ الْعِوَضِ بِالْكُلِّيَّةِ وَكَانَ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ التَّسَامُحُ جَازَ الْمَجْهُولُ وَإِلَى الْأَجَلِ الْمَجْهُولِ الْمُسْتَدْرَكِ الْجَهَالَةِ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَجُوزُ اخْتِلَاعُهَا عَلَى زِرَاعَةِ أَرْضِهَا وَرُكُوبِ دَابَّتِهَا وَخِدْمَتِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُلْزِمُ خَلْوَتَهُ بِهَا أَوْ خِدْمَةِ الْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّ هَذِهِ تَجُوزُ مَهْرًا.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: قَالَتْ طَلِّقْنِي عَلَى أَنْ أُؤَخِّرَ مَا لِي عَلَيْك فَطَلَّقَهَا، فَإِنْ كَانَ لِلتَّأْخِيرِ غَايَةٌ مَعْلُومَةٌ صَحَّ بِهِ التَّأْخِيرُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا يَصِحُّ، وَالطَّلَاقُ رَجْعِيٌّ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَكَذَا لَوْ طَلَّقَهَا عَلَى أَنْ تُبَرِّئَهُ عَنْ الْكَفَالَةِ الَّتِي كَفَلَ بِهَا لَهَا عَنْ فُلَانٍ فَالطَّلَاقُ بَائِنٌ انْتَهَى، كَأَنَّهُ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَيْسَ فِيهِ مَالٌ لِأَنَّ مُطَالَبَتَهَا بِهِ لَا تَسْقُطُ بَلْ تَتَأَخَّرُ، بِخِلَافِ الثَّانِي لِتَحَقُّقِ سُقُوطِ الْمَالِ أَوْ مُطَالَبَتِهَا إيَّاهُ بِهِ.
قولهُ: (أَوْلَى أَنْ يَصْلُحَ عِوَضًا لِغَيْرِ الْمُتَقَوِّمِ) وَهُوَ الْبِضْعُ حَالَةَ الْخُرُوجِ، بِخِلَافِهِ حَالَةَ الدُّخُولِ فَإِنَّهُ مُتَقَوِّمٌ.
وَعَنْ هَذَا جَازَ تَزْوِيجُ الْأَبِ ابْنَهُ الصَّغِيرَ عَلَى مَالِ الصَّغِيرِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْلَعَ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ عَلَى مَالِهَا.
وَلَوْ تَزَوَّجَ الْمَرِيضُ بِمَهْرِ مِثْلِهَا يَنْفُذُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ.
وَلَوْ اخْتَلَعَتْ الْمَرِيضَةُ يَعْتَبِرُ مِنْ الثُّلُثِ فَيَكُونُ لَهُ الْأَقَلُّ مِنْ مِيرَاثِهِ مِنْهَا وَمَنْ بَدَلِ الْخُلْعِ إذَا كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ فَلَهُ الْأَقَلُّ مِنْ الْإِرْثِ وَالثُّلُثِ إذَا مَاتَتْ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، فَإِنْ مَاتَتْ بَعْدَهَا أَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا فَلَهُ بَدَلُ الْخُلْعِ إنْ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ.

متن الهداية:
(فَإِنْ قَالَتْ لَهُ خَالِعْنِي عَلَى مَا فِي يَدِي فَخَالَعَهَا فَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِهَا شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهَا) لِأَنَّهَا لَمْ تَغُرُّهُ بِتَسْمِيَةِ الْمَالِ (وَإِنْ قَالَتْ خَالِعْنِي عَلَى مَا فِي يَدِي مِنْ مَالٍ فَخَالَعَهَا فَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِهَا شَيْءٌ رَدَّتْ عَلَيْهِ مَهْرَهَا) لِأَنَّهَا لَمَّا سَمَّتْ مَالًا لَمْ يَكُنْ الزَّوْجُ رَاضِيًا بِالزَّوَالِ إلَّا بِعِوَضٍ، وَلَا وَجْهَ إلَى إيجَابِ الْمُسَمَّى وَقِيمَتِهِ لِلْجَهَالَةِ وَلَا إلَى قِيمَةِ الْبِضْعِ: أَعْنِي مَهْرَ الْمِثْلِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ حَالَةَ الْخُرُوجِ فَتَعَيَّنَ إيجَابُ مَا قَامَ بِهِ عَلَى الزَّوْجِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ (وَلَوْ قَالَتْ خَالِعْنِي عَلَى مَا فِي يَدِي مِنْ دَرَاهِمَ أَوْ مِنْ الدَّرَاهِمِ فَفَعَلَ فَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِهَا شَيْءٌ فَعَلَيْهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ) لِأَنَّهَا سَمَّتْ الْجَمْعَ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ، وَكَلِمَةُ مِنْ هَاهُنَا لِلصِّلَةِ دُونَ التَّبْعِيضِ لِأَنَّ الْكَلَامَ يَخْتَلُّ بِدُونِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِأَنَّهَا لَمْ تَغُرَّهُ بِتَسْمِيَةِ الْمَالِ) لِأَنَّ مَا فِي يَدِهَا قَدْ يَكُونُ مُتَقَوِّمًا وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَهُ فَكَانَ بِذَلِكَ رَاضِيًا إنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا أَوْ كَانَ، وَمِثْلُ هَذَا قولهَا عَلَى مَا فِي بَيْتِي أَوْ مَا فِي بَيْتِي مِنْ شَيْءٍ وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ لَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَصْدُقُ عَلَى غَيْرِ الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ حَالَ قولهَا فَهُوَ لَهُ كُلُّهُ، وَلَوْ قَالَتْ عَلَى مَا فِي بَيْتِي مِنْ مَتَاعٍ وَلَيْسَ فِيهِ مَالٌ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَهْرِهَا لِلْغُرُورِ وَالْوَجْهُ ظَاهِرٌ فِي الْكِتَابِ.
وَقولهُ (لَا وَجْهَ إلَّا إيجَابُ الْمُسَمَّى) أَيْ مَا سَمَّتْهُ الْمَرْأَةُ وَهُوَ الْمَالُ (وَقِيمَتُهُ لِلْجَهَالَةِ) قِيلَ عَلَيْهِ يَجِبُ أَنْ يَلْزَمَهَا مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَالِ وَأَقَلُّهُ دِرْهَمٌ لِمَا عُرِفَ فِي الْإِقْرَارِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْجَهَالَةَ تُوجِبُ الْفَسَادَ، وَلِأَنَّ كَوْنَ أَقَلِّ مَا هُوَ مَالٌ دِرْهَمًا مَمْنُوعٌ.
قولهُ: (لِأَنَّهَا سَمَّتْ الْجَمْعَ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ) فَإِنْ قِيلَ: هَذَا فِي قولهَا دِرْهَمٌ ظَاهِرٌ، أَمَّا فِي الْمُحَلَّى فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَهَا دِرْهَمٌ لِبُطْلَانِ الْجَمْعِيَّةِ بِاللَّامِ إلَى الْجِنْسِيَّةِ وَهُوَ يَصْدُقُ بِالْفَرْدِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَهَا دِرْهَمٌ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ إمْكَانِ الْعَهْدِيَّةِ، فَأَمَّا إنْ أَمْكَنَ اُعْتُبِرَ كَوْنُهُ الْمُرَادُ وَهُوَ كَذَلِكَ هُنَا فَإِنَّ قولهَا عَلَى مَا فِي يَدِي أَفَادَ كَوْنَ الْمُسَمَّى مَظْرُوفًا بِيَدِهَا وَهُوَ عَامٌ يَصْدُقُ عَلَى الدَّرَاهِمِ وَغَيْرِهَا، فَصَارَ بِالدَّرَاهِمِ عَهْدٌ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مِنْ مَاصَدَقَاتِ لَفْظَةِ مَا وَهُوَ مُبْهَمٌ وَلَفْظَةُ مِنْ وَقَعَتْ بَيَانًا وَمَدْخُولُهَا وَهُوَ الدَّرَاهِمُ هُوَ الْمُبَيِّنُ لِخُصُوصِ الْمَظْرُوفِ فَصَارَ كَلَفْظِ الذَّكَرِ فِي قوله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} لِلْعَهْدِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ فِي قوله: {مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} وَإِنْ كَانَ يُخَالِفُهُ فِي كَوْنِ مَدْخُولِ اللَّامِ هُنَا وَاقِعًا بَيَانًا لِلْمَعْهُودِ بِخِلَافِهِ فِي وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى لِأَنَّ الْمُرَادَ بِلَفْظِ مَا فِيهِ مُتَعَيِّنٌ لِأَنَّ الْمَنْذُورَ لِلْبَيْعَةِ إنَّمَا هُوَ الذَّكَرُ، وَلِأَنَّهُ لَا يَكُونُ لِلْجِنْسِ إلَّا عِنْدَ إمْكَانِ الِاسْتِغْرَاقِ لَا عِنْدَ عَدَمِهِ وَلِذَا يَكُونُ لِلْجِنْسِ.
لَا أَشْتَرِي الْعَبِيدَ لِإِمْكَانِ الِاسْتِغْرَاقِ فِي النَّفْيِ دُونَ لَأَشْتَرِيَنَّ الْعَبِيدَ لِعَدَمِ الْإِمْكَانِ فَيَحْنَثُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ وَاحِدٍ بِالْأَوَّلِ وَلَا يَبَرُّ بِشِرَاءِ عَبْدٍ فِي الثَّانِي بَلْ بِشِرَاءِ ثَلَاثَةٍ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ تَبَيَّنَ لَك أَنَّ مِنْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ لَا صِلَةٌ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ؛ أَلَا تَرَى إلَى صِدْقِ ضَابِطِهَا وَهُوَ صَلَاحِيَّةُ وَضْعِ الَّذِي مَوْضِعِهَا مَوْصُولًا بِمَدْخُولِهَا حَالَ كَوْنِهِ خَبَرَ الْمُبْتَدَإِ الَّذِي هُوَ ضَمِيرُ الْمُبْهَمِ هَكَذَا مَا فِي يَدِي الَّذِي هُوَ الدَّرَاهِمُ كَقولهِ تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ} لِصِدْقِ الرِّجْسِ الَّذِي هُوَ الْأَوْثَانُ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي لَفْظِ الصِّلَةِ اصْطِلَاحٌ، وَمَا قِيلَ إنَّ تُعَيُّنَّ الثَّلَاثَةِ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهَا شَيْءٌ لِأَنَّ الْبِضْعَ مُحْتَرَمٌ فَلَا بُدَّ مِنْ عَدَدٍ مُعْتَبَرٍ وَهُوَ الثَّلَاثَةُ.
دُفِعَ بِأَنَّهُ فَرْعُ تَقَوُّمِ الْبِضْعِ فِي الْخُرُوجِ وَهُوَ مُنْتَفٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَمَّا لَزِمَ الْمَالُ مِنْ قولهَا عَلَى مَا فِي يَدِي مِنْ الدَّرَاهِمِ وَكَانَ الْبِضْعُ مُحْتَرَمًا فَالظَّاهِرُ أَنْ يُرَادَ بِبَدَلِ إسْقَاطِ الْمِلْكِ عَنْهُ مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ، وَالدِّرْهَمُ الْوَاحِدُ وَإِنْ صَدَقَ عَلَيْهِ الْجِنْسُ الَّذِي صَارَ إلَيْهِ الْجَمْعُ غَيْرُ ذِي خَطَرٍ وَلِذَا لَمْ يَقْطَعْ الْعُضْوَ بِهِ، بِخِلَافِ الْجَمْعِ فَإِنَّهُ ذُو خَطَرٍ وَهُوَ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ الْجِنْسِ كَالْفَرْدِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ حَمْلًا لَا دَلَالَةً بِالْمُعَيَّنِ الْمَذْكُورِ، كَمَا أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْفَرْدِ بِمُعَيَّنٍ لِكَوْنِهِ الْمُتَيَقِّنَ عِنْدَ عَدَمِ مَا يُعَيِّنُ غَيْرَهُ.

متن الهداية:
(فَإِنْ اخْتَلَعَتْ عَلَى عَبْدٍ لَهَا آبِقٍ عَلَى أَنَّهَا بَرِيئَةٌ مِنْ ضَمَانِهِ لَمْ تَبْرَأْ وَعَلَيْهَا تَسْلِيمُ عَيْنِهِ إنْ قَدَرَتْ وَتَسْلِيمُ قِيمَتِهِ إنْ عَجَزَتْ) لِأَنَّهُ عَقْدُ الْمُعَاوَضَةِ فَيَقْتَضِي سَلَامَةَ الْعِوَضِ، وَاشْتِرَاطُ الْبَرَاءَةِ عَنْهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ فَيَبْطُلُ إلَّا أَنَّ الْخُلْعَ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، وَعَلَى هَذَا النِّكَاحِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (عَلَى أَنَّهَا بَرِيئَةٌ) يَعْنِي إنْ وَجَدَتْهُ سَلَّمَتْهُ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا.
قولهُ: (وَعَلَيْهَا تَسْلِيمُ عَيْنِهِ إلَخْ) هَذَا فَرْعُ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ، وَإِنَّمَا صَحَّتْ فِي الْخُلْعِ لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُسَامَحَةِ بِسَبَبِ أَنَّهُ اعْتِيَاضٌ عَنْ غَيْرِ مَالٍ، فَالْعَجْزُ عَنْ تَسْلِيمِهِ لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فِي الْقِيمَةِ فَتُدْفَعُ.
وَكَذَا لَوْ خَالَعَهَا عَلَى عَبْدِ الْغَيْرِ صَحَّتْ وَوَجَبَ تَسْلِيمُهُ إنْ رَضِيَ سَيِّدُهُ وَإِلَّا فَقِيمَتُهُ، وَهَذَا بِطَرِيقٍ أَوْلَى لِأَنَّهُ يَجُوزُ التَّزَوُّجُ عَلَى عَبْدِ الْغَيْرِ وَحُكْمُهُ كَذَلِكَ فَالْخُلْعُ عَلَيْهِ أَوْلَى، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُشَاحَحَةِ فَالْعَجْزُ يُفْضِي إلَيْهَا وَهُوَ لَمْ يَشْرَعْ إلَّا لِقَطْعِهَا فَلَا يَجُوزُ تَسْمِيَةُ الْآبِقِ فِيهِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا خَالَعَتْهُ عَلَى دَابَّةٍ وَعَلَى أَنْ تُزَوَّجَهُ امْرَأَةً وَتُمْهِرَهَا عَنْهُ يَصِحُّ الْخُلْعُ لَا التَّسْمِيَةُ فَيَرْجِعُ بِمَهْرِهَا لِأَنَّ الْجَهَالَةَ مُتَفَاحِشَةٌ لِاخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ شَيْءٍ مُسَمًّى بِعَيْنِهِ وَلَا قِيمَتُهُ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ أَوْ قِيمَتُهُ.
وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ كَتَسْمِيَةِ عَبْدٍ وَسَطٍ، فَإِذَا صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ أَوْجَبَتْ تَسْلِيمَ الْمُسَمَّى فَاشْتِرَاطُ الْبَرَاءَةِ عَنْ ضَمَانِهِ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ اشْتِرَاطُ عَدَمِ الْبَدَلِ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ وَهُوَ اشْتِرَاطُ عَدَمِ حُكْمِهِ فَيَبْطُلُ هَذَا الشَّرْطُ، بِخِلَافِ اشْتِرَاطِ الْبَرَاءَةِ مِنْ عَيْبِ الْعِوَضِ لِأَنَّهُ يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ يُوجِبُ سَلَامَتَهُ كَمَا يُوجِبُ أَصْلَهُ لِأَنَّ وُجُوبَ سَلَامَتِهِ تَبَعٌ لِوُجُوبِهِ فَوُجُوبُ أَصْلِهِ هُوَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، ثُمَّ يَجِبُ كَوْنُهُ سَلِيمًا لِأَنَّ وُجُوبَ مُطْلَقِ الشَّيْءِ يَقْتَضِي كَمَالَهُ، لِأَنَّ الْمَعِيبَ فَائِتٌ مِنْ وَجْهٍ فَكَانَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ هُوَ الْعَيْبُ، فَاشْتِرَاطُ نَفْيِهِ اشْتِرَاطُ نَفْيِ نَفْسِ مُقْتَضَاهُ، بِخِلَافِ اشْتِرَاطِ كَوْنِهِ مَعِيبًا لِأَنَّهُ إثْبَاتُهُ، ثُمَّ إسْقَاطُ بَعْضِ الْحُقُوقِ التَّابِعِ وُجُوبُهَا لِوُجُوبِهِ، وَذَلِكَ لَا يُخِلُّ بِإِثْبَاتِ مُقْتَضَاهُ.
أَوْ نَقول: السَّلَامَةُ إنَّمَا هِيَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ الَّذِي لَمْ يُشْرَطْ فِيهِ عَدَمُهَا وَهُوَ الْمُطْلَقُ لَا غَيْرُهُ، بِخِلَافِ أَصْلِ الْبَدَلِ فَإِنَّهُ حُكْمُ كُلِّ عَقْدٍ مُطْلَقًا.
وَلَوْ اخْتَلَعَتْ عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَمَاتَ فِي يَدِ الزَّوْجَةِ فَعَلَيْهَا قِيمَتُهُ، وَلَوْ كَانَ مَاتَ قَبْلَ الْخُلْعِ رَجَعَ عَلَيْهَا بِالْمَهْرِ الَّذِي أَخَذَتْهُ لِأَنَّهَا غَرَّتْهُ بِتَسْمِيَةِ الْعَبْدِ، وَلَوْ كَانَ حَيًّا فَاسْتَحَقَّ لَزِمَهَا قِيمَتُهُ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهُ مَعَ بَقَاءِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِتَسْلِيمِهِ ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ، وَيَجِبُ فِي صُورَةِ مَا إذَا كَانَ مَاتَ قَبْلَ الْخُلْعِ إنْ كَانَ الزَّوْجُ عَلِمَ بِذَلِكَ أَنْ لَا يَجِبَ لَهُ شَيْءٌ كَمَا قَدَّمْنَا فِي الْخَلِّ الْمُعَيَّنِ إذَا ظَهَرَ خَمْرًا وَهُوَ يَعْلَمُ.
وَفِي كَافِي الْحَاكِمِ: وَإِنْ اخْتَلَعَتْ بِعَبْدٍ حَلَالِ الدَّمِ فَقُتِلَ عِنْدَهُ بِذَلِكَ رَجَعَ عَلَيْهَا بِقِيمَتِهِ كَالِاسْتِحْقَاقِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ وَجَبَ قَطْعُ يَدِهِ فَقُطِعَ عِنْدَ الزَّوْجِ رَدَّهُ وَأَخَذَ قِيمَتَهُ.

متن الهداية:
(وَإِذَا قَالَتْ طَلَّقَنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَعَلَيْهَا ثُلُثُ الْأَلْفِ) لِأَنَّهَا لَمَّا طَلَبَتْ الثَّلَاثَ بِأَلْفٍ فَقَدْ طَلَبَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ بِثُلُثِ الْأَلْفِ، وَهَذَا لِأَنَّ حَرْفَ الْبَاءِ يَصْحَبُ الْأَعْوَاضَ وَالْعِوَضُ يَنْقَسِمُ عَلَى الْمُعَوَّضِ وَالطَّلَاقُ بَائِنٌ لِوُجُوبِ الْمَالِ (وَإِنْ قَالَتْ طَلَّقَنِي ثَلَاثًا عَلَى أَلْفٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيَمْلِكُ الرَّجْعَةَ. وَقَالَا هِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ بِثُلُثِ الْأَلْفِ) لِأَنَّ كَلِمَةَ عَلَى بِمَنْزِلَةِ الْبَاءِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ، حَتَّى إنَّ قولهُمْ احْمِلْ هَذَا الطَّعَامَ بِدِرْهَمٍ أَوْ عَلَى دِرْهَمٍ سَوَاءٌ.
وَلَهُ أَنَّ كَلِمَةَ عَلَى لِلشَّرْطِ، قَالَ اللَّهُ تعالى: {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا} وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَنْ تَدْخُلِي الدَّارَ كَانَ شَرْطًا، وَهَذَا لِأَنَّهُ لِلُّزُومِ حَقِيقَةً، وَاسْتُعِيرَ لِلشَّرْطِ لِأَنَّهُ يُلَازِمُ الْجَزَاءَ، وَإِذْ كَانَ لِلشَّرْطِ فَالْمَشْرُوطُ لَا يَتَوَزَّعُ عَلَى أَجْزَاءِ الشَّرْطِ، بِخِلَافِ الْبَاءِ لِأَنَّهُ لِلْعِوَضِ عَلَى مَا مَرَّ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْمَالُ كَانَ مُبْتَدَأً فَوَقَعَ الطَّلَاقُ وَيَمْلِكُ الرَّجْعَةَ (وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا بِأَلْفٍ أَوْ عَلَى أَلْفٍ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ) لِأَنَّ الزَّوْجَ مَا رَضِيَ بِالْبَيْنُونَةِ إلَّا لِتُسْلِمَ لَهُ الْأَلْفَ كُلَّهَا، بِخِلَافِ قولهَا طَلَّقَنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ لِأَنَّهَا لَمَّا رَضِيَتْ بِالْبَيْنُونَةِ بِأَلْفٍ كَانَتْ بِبَعْضِهَا أَرْضَى (وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ فَقَبِلَتْ طَلُقَتْ وَعَلَيْهَا الْأَلْفُ وَهُوَ كَقولهِ أَنْتِ طَالِقٌ بِأَلْفٍ) وَلَا بُدَّ مِنْ الْقَبُولِ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ مَعْنَى قولهِ بِأَلْفٍ بِعِوَضِ أَلْفٍ يَجِبُ لِي عَلَيْك، وَمَعْنَى قولهِ عَلَى أَلْفٍ عَلَى شَرْطِ أَلْفٍ يَكُونُ لِي عَلَيْك، وَالْعِوَضُ لَا يَجِبُ بِدُونِ قَبُولِهِ، وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ لَا يَنْزِلُ قَبْلَ وُجُودِهِ.
وَالطَّلَاقُ بَائِنٌ لِمَا قُلْنَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً) أَيْ فِي الْمَجْلِسِ حَتَّى لَوْ قَامَ فَطَلَّقَهَا لَا يَجِبُ شَيْءٌ.
قولهُ: (فَعَلَيْهَا ثُلُثُ الْأَلْفِ) وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَعَنْ مَالِكٍ تَقَعُ بِالْأَلْفِ.
وَعِنْدَ أَحْمَدَ تَقَعُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَالدَّعْوَى مَوْقُوفَةٌ عَلَى إثْبَاتِ التَّلَازُمِ بَيْنَ طَلَبِهَا الثَّلَاثِ بِأَلْفٍ وَطَلَبِ الْوَاحِدَةِ بِثُلُثِهِ فَأَثْبَتَهُ بِقولهِ إنَّ الْبَاءَ تَصْحَبُ الْأَعْوَاضَ بِاتِّفَاقٍ، وَالْعِوَضُ يَنْقَسِمُ عَلَى الْمُعَوِّضِ بِالضَّرُورَةِ وَإِلَّا لَخَلَا بَعْضُهُ عَنْهُ فَيَكُونُ بَعْضُهُ بِلَا عِوَضٍ، لَكِنَّ الْغَرَضَ أَنْ لَا تَبَرُّعَ بِشَيْءٍ مِنْهُ، لَكِنْ لَازَمَ هَذَا جَعْلُ كُلِّ طَلْقَةٍ بِمُقَابَلَةِ ثُلُثِ الْأَلْفِ، وَالْمَطْلُوبُ وَهُوَ طَلَبُ كُلِّ طَلْقَةٍ بِثُلُثِهِ لَازِمُهُ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْعِلْمُ مُحِيطًا بِالِانْقِسَامِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يَكُونُ طَلَبُ الْجُمْلَةِ بِعِوَضٍ طَلَبَ كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ، لَكِنْ يَبْقَى فِيهِ أَنَّهُ إنَّمَا هُوَ طَلَبُ الطَّلْقَةِ بِحِصَّتِهَا حَالَ كَوْنِهَا مَعَ الطَّلْقَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ لَا مُنْفَرِدَةً، فَإِيقَاعُهُ الْوَاحِدَةَ فَقَطْ إيقَاعُ غَيْرِ الْمَسْئُولِ فَيَقَعُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَهُوَ وَجْهُ قول الْإِمَامِ أَحْمَدَ، فَلِذَا رَتَّبَ فِي الْكَافِي الدَّعْوَى عَلَى اللَّازِمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ جَعْلُهَا كُلَّ طَلْقَةٍ بِثُلُثِهَا، وَجَعْلُهُ نَظِيرَ مَنْ يَقول لِغَيْرِهِ بِعْ هَؤُلَاءِ الْعَبِيدَ الثَّلَاثَةَ بِأَلْفٍ فَبَاعَ أَحَدَهُمْ بِثُلُثِهَا يَجُوزُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ تَحْصِيلُ بَعْضِ الْمَقْصُودِ، كَذَا هَذَا بَلْ أَوْلَى، فَإِنَّ مَقْصُودَهَا الْأَصْلِيَّ مِلْكُهَا نَفْسُهَا بِقَطْعِ مِلْكِهِ، غَيْرِ أَنَّهَا ذَكَرَتْ إحْدَى صُورَتِي ذَلِكَ وَهُوَ الثَّلَاثُ بَعْدَ عِلْمِهَا بِحِصَّةِ كُلٍّ مِنْهَا فَإِبَانَتُهَا بِوَاحِدَةٍ تَحْصِيلُ أَصْلِ الْمَقْصُودِ فِي صُورَةٍ أُخْرَى فَهُوَ أَوْلَى بِجَوَازِهِ بِحِصَّتِهَا، بِخِلَافِ عَدَمِ الْجَوَازِ فِي قولهِ بِعْتُك هَذِهِ الْأَعْبُدَ الثَّلَاثَةَ بِأَلْفٍ كُلَّ وَاحِدٍ بِثُلُثِهَا فَقَبِلَ فِي وَاحِدٍ لَا يَجُوزُ عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ لِمَانِعٍ وَهُوَ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ فَإِنَّهُ ضَرَرٌ عَلَى الْبَائِعِ، لِأَنَّ عَادَةَ التُّجَّارِ ضَمُّ الْجَيِّدِ إلَى الرَّدِيءِ فِي الصَّفْقَةِ لِيُرَوِّجُوا الرَّدِيءَ، فَالْقَبُولُ فِي بَعْضِهَا إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِهِ.
وَبِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا بِأَلْفٍ فَقَبِلَتْ فِي وَاحِدَةٍ لَا يَقَعُ شَيْءٌ وَلَا يَجِبُ شَيْءٌ لِأَنَّ الزَّوْجَ هُنَاكَ رَاضٍ بِالْبَيْنُونَةِ مُقَابِلًا بِثُلُثِ الْأَلْفِ حَيْثُ كَانَ الْإِيقَاعُ مِنْهُ، وَفِي هَذِهِ لَمْ يَرْضَ بِهَا إلَّا وَأَنْ يَكُونَ بِإِزَائِهَا أَلْفٌ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ بَعْدَ الْإِيجَابِ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا.
وَلَوْ قَالَتْ طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا مُتَفَرِّقَةً فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ اسْتَحَقَّ الْأَلْفَ اسْتِحْسَانًا.
وَفِي الذَّخِيرَةِ: قَالَتْ طَلِّقْنِي ثَلَاثًا عَلَى أَلْفٍ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ طَلَاقِهَا إلَّا وَاحِدَةً فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً يَلْزَمُهَا الْأَلْفُ لِأَنَّهَا الْتَزَمَتْهُ بِإِزَاءِ الْحُرْمَةِ الْغَلِيظَةِ.
وَفِي الْمَرْغِينَانِيِّ: لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَرْبَعًا بِأَلْفٍ فَقَبِلَتْ طَلُقَتْ ثَلَاثًا بِأَلْفٍ، وَلَوْ قَبِلَتْ الثَّلَاثَ بِالْأَلْفِ لَمْ يَقَعْ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ قُبَيْلِ الْفَصْلِ الرَّابِعِ فِي الْأَمْرِ بِالْيَدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَوْ قَالَتْ طَلِّقْنِي أَرْبَعًا بِأَلْفٍ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَهِيَ بِالْأَلْفِ، وَلَوْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَبِثُلُثِ الْأَلْفِ.
قولهُ: (وَهَذَا لِأَنَّهُ لِلُّزُومِ حَقِيقَةٍ وَاسْتُعِيرَ لِلشَّرْطِ) يُبَيِّنُ أَنَّ قولهُ إنَّ كَلِمَةَ (عَلَى) لِلشَّرْطِ مُرَادُهُ مَجَازًا.
وَفِي النِّهَايَةِ: لَا يَتِمُّ تَعْلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا عَلَى تَعْلِيلِ الْمَبْسُوطِ حَيْثُ ادَّعَى أَنَّهَا لِلشَّرْطِ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهَا مُسْتَعَارَةً لِلشَّرْطِ، لَهُمَا أَنْ يَقولا لِمَ صَارَتْ تِلْكَ الِاسْتِعَارَةُ أَوْلَى مِنْ اسْتِعَارَتِهَا لِمَعْنَى الْبَاءِ، بَلْ اسْتِعَارَتُهَا لِمَعْنَى الْبَاءِ أَوْلَى لِأَنَّ حَقِيقَتَهَا الْإِلْزَامُ بِالِاتِّفَاقِ، وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْإِلْصَاقِ وَاللُّزُومِ أَكْثَرُ مِنْهَا بَيْنَ الْإِلْزَامِ وَالشَّرْطِ.
ثُمَّ نَقَلَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّهَا لِلشَّرْطِ حَقِيقَةً وَهُوَ مُمْكِنٌ هُنَا إذْ الطَّلَاقُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا فِيهِ إذْ لَا يَعْدِلُ إلَى الْمَجَازِ مَعَ إمْكَانِ الْحَقِيقَةِ.
وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ: إنَّهَا حَقِيقَةٌ لِلِاسْتِعْلَاءِ إذَا اتَّصَلَتْ بِالْأَجْسَامِ الْمَحْسُوسَةِ كَقُمْتُ عَلَى السَّطْحِ وَالْعَتَبَةِ وَجَلَسْت عَلَى الْأَرْضِ وَالْبِسَاطِ وَمَسَحْت عَلَى رَأْسِي، وَهُوَ مَحْمَلُ إطْلَاقِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ كَوْنِهَا لِلِاسْتِعْلَاءِ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ هِيَ حَقِيقَةٌ فِي مَعْنَى اللُّزُومِ الصَّادِقِ فِي ضِمْنِ مَا يَجِبُ فِيهِ الشَّرْطُ الْمَحْضُ نَحْوَ قوله: {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا} أَيْ بِشَرْطِ ذَلِكَ، وَنَحْوَهُ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَنْ تَدْخُلِي الدَّارَ، وَمَا يَجِبُ فِيهِ الْمُعَاوَضَةُ الشَّرْعِيَّةُ الْمَحْضَةُ كَبِعْنِي هَذَا عَلَى أَلْفٍ وَاحْمِلْهُ عَلَى دِرْهَمٍ، وَالْعُرْفِيَّةُ كَأَفْعَلُ كَذَا عَلَى أَنْ أَنْصُرَك أَوْ أُعْطِيَك أَوْ أَشْفَعَ لَك عِنْدَ فُلَانٍ، وَالْمَحَلُّ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ مِمَّا يَصِحُّ فِيهِ كُلٌّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ عَلَى الشَّرْطِ الْمَحْضِ وَالِاعْتِيَاضِ بِهِ وَلَا مُرَجِّحَ، وَكَوْنُ مَدْخُولِهَا مَالًا لَا يُرَجِّحُ مَعْنَى الِاعْتِيَاضِ فَإِنَّ الْمَالَ يَصِحُّ جَعْلُهُ شَرْطًا مَحْضًا حَتَّى لَا تَنْقَسِمُ أَجْزَاؤُهُ عَلَى أَجْزَاءِ مُقَابِلِهِ، كَمَا لَوْ قَالَتْ إنْ طَلَّقْتنِي ثَلَاثًا فَلَكَ أَلْفٌ حَتَّى لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ الطَّلْقَاتِ مُقَابَلًا بِشَيْءٍ بَلْ الْمَجْمُوعُ يَنْزِلُ عِنْدَ الْمَجْمُوعِ، كَمَا يَصِحُّ جَعْلُهُ عِوَضًا مُنْقَسِمًا كَمَا فِي بِأَلْفٍ، فَعَلَى اعْتِبَارِ الْمُعَاوَضَةِ ثُلُثَ الْأَلْفِ بِالطَّلْقَةِ وَعَلَى اعْتِبَارِ الشَّرْطِ لَا، إذْ الشَّرْطُ لَا تَتَوَزَّعُ أَجْزَاؤُهُ عَلَى أَجْزَاءِ الْمَشْرُوطِ، بَلْ مَجْمُوعُهُ مَجْعُولُ عَلَامَةٍ عَلَى نُزُولِ كُلِّهِ، فَدَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ لُزُومِ ثُلُثِ الْأَلْفِ وَعَدَمِهِ فَلَا يَلْزَمُ بِالشَّكِّ وَلَا يُحْتَاطُ فِي اللُّزُومِ إذْ الْأَصْلُ فَرَاغُ الذِّمَّةِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ اشْتِغَالُهَا، وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يَكُونُ لَفْظًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ الِاسْتِعْلَاءِ وَاللُّزُومِ، وَكَوْنُهُ لَا يُوجِبُ التَّوَقُّفَ عِنْدَ إطْلَاقِهِ كَمَا فِي الْمُشْتَرَكَاتِ لَا يَنْفِيهِ، إذْ غَايَتُهُ أَنَّهُ لِلُزُومِ الْقَرِينَةِ الْمُعَيَّنَةِ لِأَحَدِ الْمَفْهُومِينَ وَهُوَ خُصُوصُ الْمَادَّةِ أَعْنِي كَوْنَ مَدْخُولِهَا جِسْمًا مَحْسُوسًا أَوْ غَيْرَهُ، وَكَوْنُ الْمَجَازِ خَيْرًا مِنْ الِاشْتِرَاكِ هُوَ عِنْدَ التَّرَدُّدِ.
أَمَّا عِنْدَ قِيَامِ دَلِيلِ الْحَقِيقَةِ وَهُوَ التَّبَادُرُ بِمُجَرَّدِ الْإِطْلَاقِ فَلَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الِاشْتِرَاكَ وَاقِعٌ وَلَيْسَ إلَّا لِدَلِيلِهِ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ سَلِمَ دَعْوَى أَنَّ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ هُوَ الِاسْتِعْلَاءُ وَالْمَجَازِيَّ اللُّزُومُ، لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ الْقَلْبِ، وَكَوْنُ ذَلِكَ قول أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ لَا يُرَجِّحُهُ لِأَنَّ أَهْلَ الِاجْتِهَادِ هُمْ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ وَغَيْرِهَا وَأَحَدٌ مِنْ الْكُلِّ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْوَاضِعِ أَنَّ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ كَذَا، بَلْ لَيْسَ حُكْمُهُمْ بِهِ إلَّا بِنَاءً عَلَى مَا رَأَوْهُ مُتَبَادِرًا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لِأَهْلِ اللِّسَانِ، وَنَحْنُ أَوْجَدْنَاك تُبَادِرُ اللُّزُومَ فِي ذَلِكَ النَّوْعِ كَمَا يَتَبَادَرُ الِاسْتِعْلَاءُ فِي الْآخَرِ.
هَذَا وَلَوْ تَنَزَّلْنَا إلَى كَوْنِهِ فِي اللُّزُومِ مَجَازًا لَمْ يَضُرَّنَا فِي الْمَطْلُوبِ فَنَقول: لَمَّا تَعَذَّرَتْ الْحَقِيقَةُ: أَعْنِي الِاسْتِعْلَاءَ كَانَ فِي الْمَجَازِيِّ: أَعْنِي اللُّزُومَ، وَهَذَا الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ مَعْنًى كُلِّيٌّ صَادِقٌ مَعَ مَا يَجِبُ فِيهِ الشَّرْطِيَّةُ وَمَا يَجِبُ فِيهِ الْمُعَاوَضَةُ إلَى آخِرِ مَا قُلْنَاهُ بِعَيْنِهِ.
قولهُ: (وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا بِأَلْفٍ) تَقَدَّمَ وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ ابْتِدَائِهَا وَابْتِدَائِهِ.
قولهُ: (وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ، إلَى قولهِ: وَلَا بُدَّ مِنْ الْقَبُولِ) لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ بِأَلْفٍ أَوْ عَلَى أَلْفٍ أَوْ خَلَعْتُك أَوْ بَارَأْتُك أَوْ طَلَّقْتُك بِأَلْفٍ أَوْ عَلَى أَلْفٍ يَقَعُ عَلَى الْقَبُولِ فِي مَجْلِسِهَا وَهُوَ يَمِينٌ مِنْ جِهَتِهِ فَيَصِحُّ تَعْلِيقُهُ وَإِضَافَتُهُ، وَلَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ وَلَا يَبْطُلُ بِقِيَامِهِ عَنْ الْمَجْلِسِ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْبُلُوغِ إلَيْهَا إذَا كَانَتْ غَائِبَةً لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِقَبُولِهَا الْمَالِ، وَهُوَ مِنْ جِهَتِهَا مُبَادَلَةٌ فَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا وَإِضَافَتُهَا، وَيَصِحُّ رُجُوعُهَا قَبْلَ قَبُولِ الزَّوْجِ وَيَبْطُلُ بِقِيَامِهَا.
أَمَّا تَعْلِيقُهُ بِالْقَبُولِ فَلِأَنَّ الْبَاءَ لِلْمُعَاوَضَةِ، وَقَدَّمْنَا أَنَّ فِي الْمُعَاوَضَاتِ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِالْقَبُولِ، وَكَذَا عَلَى عِنْدَهُمَا فَلَا إشْكَالَ، وَعِنْدَهُ هِيَ لِلشَّرْطِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ فِعْلِهِ فَهُوَ إمَّا الْقَبُولُ أَوْ الْأَدَاءُ، وَيَتَعَيَّنُ الْقَبُولُ بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَهُوَ قَصْدُ الْمُعَاوَضَةِ.
فَإِنْ قُلْت: فَلِمَ لَمْ تُعْتَبَرْ جِهَةُ الْمُعَاوَضَةِ فِي قولهَا طَلِّقْنِي ثَلَاثًا عَلَى أَلْفٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً عَلَى قولهِ وَكَانَ يَجِبُ ثُلُثُهَا.
فَالْجَوَابُ: صَلَاحِيَّةُ هَذَا الْقَدْرِ لِكَوْنِهِ قَرِينَةً مُعَيَّنَةً لِلشَّرْطِ أَنَّهُ الْقَبُولُ أَوْ الْأَدَاءُ بَعْدَ لُزُومِ إرَادَةِ أَحَدِهِمَا لَا يَسْتَلْزِمُ لُزُومَ جَعْلِهِ مُوجِبًا لِأَصْلِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَثْبُتَ لُزُومُهُ، بَلْ قَالُوا مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا، وَهُوَ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي أَلْفًا تَعَلَّقَ بِالْقَبُولِ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي جَوَابِ الرِّوَايَةِ مِنْ كُتُبِ مُحَمَّدٍ، أَمَّا لَوْ قَالَ إذَا أَعْطَيْتنِي أَوْ إذَا جِئْتنِي بِأَلْفٍ فَلَا تَطْلُقُ حَتَّى تُعْطِيَهُ لِلتَّصْرِيحِ بِجَعْلِ الْإِعْطَاءِ شَرْطًا بِخِلَافِهِ مَعَ عَلَى، حَتَّى إنَّهُ إذَا كَانَ عَلَى الزَّوْجِ دَيْنٌ لَهَا وَقَعَتْ الْمُقَاصَّةُ فِي مِثْلِهِ فِي مَسْأَلَةِ (عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي) دُونَ إنْ أَعْطَيْتنِي إلَّا أَنْ يَرْضَى الزَّوْجُ طَلَاقًا مُسْتَقْبَلًا بِأَلْفٍ لَهَا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُقَالُ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي مِنْك كَذَا، وَيُرَادُ قَبُولُهُ فِي الْعُرْفِ، قَالَ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} أَيْ حَتَّى يَقْبَلُوا، لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ بِقَبُولِهَا يَنْتَهِي الْحَرْبُ مَعَهُمْ، هَذَا ثُمَّ فِي قولهِ إنْ أَعْطَيْتنِي يَشْتَرِطُ الْإِعْطَاءُ فِي الْمَجْلِسِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَفِي قولهِ إذَا أَوْ مَتَى أَعْطَيْتنِي لَا حَاجَةَ إلَى الْإِعْطَاءِ فِي الْمَجْلِسِ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ مُلَاحَظٌ وَإِنْ ذُكِرَ بِصَرِيحِ الشَّرْطِ، وَسَنَذْكُرُ نَحْوَهُ مِنْ مُخْتَصَرِ الْحَاكِمِ.
وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ اشْتِرَاطُ مَجْلِسِهَا فَلِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ مِنْ جَانِبِهَا حَتَّى صَحَّ رُجُوعُهَا إذَا ابْتَدَأَ قَبْلَ قَبُولِ الزَّوْجِ وَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا وَلَا إضَافَتُهَا وَالْمُبَادَلَاتُ تَسْتَدْعِي جَوَابًا فِي الْمَجْلِسِ، فَإِذَا لَمْ تُجِبْ حَتَّى قَامَتْ لَمْ يُعْتَبَرْ قَبُولُهَا إذْ ذَاكَ وَفِي جَانِبِهِ هُوَ يَمِينٌ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ.
فَرْعٌ:
قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ إنْ تَزَوَّجْتُك فَقَبِلَتْ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَا يُعْتَبَرُ الْقَبُولُ إلَّا بَعْدَ التَّزَوُّجِ، وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا فِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ، وَغَيْرُهُ جَعَلَ هَذَا قول أَبِي حَنِيفَةَ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: إذَا قَبِلَتْ عِنْدَ قولهِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا طَلُقَتْ.
وَالْحَقُّ قول أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ خَلَعَ بَعْدَ التَّزَوُّجِ فَيَشْتَرِطُ الْقَبُولَ بَعْدَهُ.

متن الهداية:
(وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَعَلَيْك أَلْفٌ فَقَبِلَتْ، وَقَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ وَعَلَيْك أَلْفٌ فَقَبِلَ عَتَقَ الْعَبْدُ وَطَلُقَتْ الْمَرْأَةُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَكَذَا إذَا لَمْ يَقْبَلَا (وَقَالَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْأَلْفُ إذَا قَبِلَ) وَإِذَا لَمْ يَقْبَلْ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ.
لَهُمَا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يُسْتَعْمَلُ لِلْمُعَاوَضَةِ، فَإِنَّ قولهُمْ احْمِلْ هَذَا الْمَتَاعَ وَلَك دِرْهَمٌ بِمَنْزِلَةِ قولهِمْ بِدِرْهَمٍ.
وَلَهُ أَنَّهُ جُمْلَةٌ تَامَّةٌ فَلَا تَرْتَبِطُ بِمَا قَبْلَهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ، إذْ الْأَصْلُ فِيهَا الِاسْتِقْلَالُ وَلَا دَلَالَةَ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ يَنْفَكَّانِ عَنْ الْمَالِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ لِأَنَّهُمَا لَا يُوجَدَانِ دُونَهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَعَلَيْك أَلْفٌ أَوْ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ وَعَلَيْك أَلْفٌ) أَوْ قَالَتْ هِيَ أَوْ الْعَبْدُ طَلِّقْنِي أَوْ أَعْتِقْنِي وَلَك أَلْفٌ فَفِي ابْتِدَائِهِ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ بِمُجَرَّدِ ذِكْرِهِمَا، وَلَا شَيْءَ لَهُ قَبِلَا أَوْ رَدَّا.
وَفِي الثَّانِي يَقَعُ إذَا أَجَابَ وَلَا شَيْءَ لَهُ، وَقَالَا: لَا يَقَعُ شَيْءٌ مَا لَمْ يَقْبَلَا، فَإِذَا قَبِلَا وَقَعَ وَلَزِمَهُمَا الْمَالُ لَهُمَا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَقَعُ لِقَصْدِ الْمُعَاوَضَةِ حَتَّى إنَّ قولهُ لِلْخَيَّاطِ خِطْهُ وَلَك دِرْهَمٌ وَلِلْحَمَّالِ احْمِلْهُ وَلَك دِرْهَمٌ يُفِيدُهَا، وَيَلْزَمُ الْمُسَمَّى الْمَعْلُومُ بِإِرَادَةِ تَسَبُّبِ الْخِيَاطَةِ وَالْحَمْلِ لَكِنَّهُ تُرِكَ لِإِحَاطَةِ الْعِلْمِ بِإِرَادَتِهِ.
وَطَرِيقُهُ إفَادَةُ اللَّفْظِ لِذَلِكَ أَنْ تَجْعَلَ الْوَاوَ لِلْحَالِ، فَعِنْدَهُ الْحَاصِلُ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ خِطْهُ فِي حَالِ وُجُوبِ الْأَلْفِ لِي عَلَيْك أَوْ لَك عَلَيَّ، وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْحَالُ إلَّا بِقَبُولِهِ، فَعِنْدَهُ يَثْبُتُ شَرْطُ الطَّلَاقِ إذْ الْأَحْوَالُ شُرُوطٌ فَيَقَعُ عَقِيبَهُ وَلَزِمَ الْمَالُ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا عُرِفَ ذَلِكَ لِلْعِلْمِ بِالْمُعَاوَضَةِ لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ وَلَا كَذَلِكَ هَاهُنَا.
قُلْنَا: الْخُلْعُ أَيْضًا مُعَاوَضَةٌ.
وَلَهُ أَنَّ قولهُ وَعَلَيْك وَقولهُمَا وَلَك أَلْفٌ جُمْلَةٌ تَامَّةٌ، وَالْأَصْلُ فِي الْجُمْلَةِ التَّامَّةِ أَنْ تَسْتَقِلَّ بِنَفْسِهَا فَلَا يَعْتَبِرُ فِيهَا مَا اُعْتُبِرَ فِيمَا قَبْلَهَا مِنْ الْقُيُودِ، وَلِذَا لَوْ قَالَ إنْ دَخَلَ فُلَانٌ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَضَرَّتُك طَالِقٌ تَطْلُقُ الضَّرَّةُ لِلْحَالِ إلَّا بِقَرِينَةٍ تُفِيدُ مُشَارَكَتَهَا فِيهِ، كَمَا فِي قولهِ إنْ دَخَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ فَإِنَّ الْعِتْقَ يَتَعَلَّقُ أَيْضًا بِالدُّخُولِ، لِأَنَّ قولهُ وَعَبْدِي حُرٌّ وَإِنْ كَانَ تَامًّا إلَّا أَنَّهُ فِي حَقِّ التَّعْلِيقِ قَاصِرٌ لِأَنَّ الْخَبَرَ الْأَوَّلَ لَا يَصْلُحُ خَبَرًا لَهُ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الضَّرَّةِ لِأَنَّهُ يَكْفِيهِ أَنْ يَقول وَضَرَّتَك إنْ كَانَ غَرَضُهُ التَّعْلِيقَ لِأَنَّ خَبَرَ الْأَوَّلِ يَصْلُحُ خَبَرًا لَهُ، وَلَا دَلَالَةَ هُنَا لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ لَمْ يَلْزَمْ فِيهِمَا الْمَالُ، وَمَعَ عَدَمِ اللُّزُومِ فَالْكِرَامُ يَأْبُونَ قَبُولَ بَدَلِهِمَا أَشَدَّ الْإِبَاءِ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ لِأَنَّهَا لَمْ تُشْرَعْ إلَّا مُعَاوَضَةً فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْمَالِ، حَتَّى لَوْ قَالَ لِلْخَيَّاطِ خِطْهُ مُقْتَصِرًا لَزِمَ إذَا خَاطَهُ أُجْرَةٌ الْمِثْلِ فَوَجَبَ بَقَاءُ الْوَاوِ عَلَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ الْعَطْفُ فَيَكُونُ الزَّوْجُ بَعْدَ الْإِيقَاعِ عَطَفَ أُخْرَى هِيَ دَعْوَى مَالٍ عَلَيْهِمَا ابْتِدَاءً.
وَفِي قولهِمَا وَلَك أَلْفٌ إيجَابُ صِلَةٍ مُبْتَدَأَةٍ وَعْدًا مِنْهُمَا، وَالْمَوَاعِيدُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ فَيَبْقَى الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ فِيهِمَا بِلَا بَدَلٍ، بِخِلَافِ قولهِ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا وَأَنْتَ حُرٌّ، لِأَنَّ أَوَّلَ كَلَامِهِ غَيْرُ مُفِيدٍ حُكْمًا مُعْتَبَرًا إلَّا بِآخِرِهِ، إذْ لَا مَعْنَى لِأَمْرِهِ بِأَدَائِهَا مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ، وَالْقَرِينَةُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ لَا تَبْلُغُ هَذَا فَيَصِيرُ بِهِ تَعْلِيقًا لِلْعِتْقِ بِأَدَاءِ الْمَالِ فَيَتَوَقَّفُ الْوُقُوعُ عَلَيْهِ، أَمَّا هَذَا فَأَوَّلُ الْكَلَامِ مُفِيدٌ بِدُونِ آخِرِهِ مِنْهُ ظَاهِرًا، وَكَذَا مِنْهَا لِأَنَّهُ الْتِمَاسٌ صَحِيحٌ كَثِيرًا مَا يُفْرِدُ ذِكْرُهُ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَضْمُونِ آخِرِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ جَعْلَهُمْ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ يَسْتَلْزِمُ عَطْفَ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ فِي الْأُصُولِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ وَاوَ الِاسْتِئْنَافِ، وَحِينَئِذٍ إنْ ادَّعَى أَنَّهَا حَقِيقَةً فِيهِ تَبَادَرَ إلَيْهِ الْمَنْعُ فَيَحْتَاجُ فِي تَرْجِيحِهِ عَلَى الْحَالِ إلَى دَلِيلٍ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ احْتِمَالَ الْوَاوِ لِلْحَالِ وَالِاسْتِئْنَافِ حَاصِلٌ، وَبِأَحَدِهِمَا يَلْزَمُ الْمَالُ وَبِالْآخَرِ لَا فَلَا يَلْزَمُ بِالشَّكِّ، عَلَى أَنَّا نَمْنَعُ كَوْنَ جُمْلَةِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْشَائِيَّةً، وَكَذَا أَنْتَ حُرٌّ، وَقَدَّمْنَا فِي بَابِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّهَا خَبَرِيَّةٌ، وَالطَّلَاقُ يَقَعُ عِنْدَهُ شَرْعًا بِالتَّطْلِيقِ الثَّابِتِ ضَرُورَةً فَارْجِعْ إلَيْهِ.

متن الهداية:
(وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ أَوْ عَلَى أَنَّك بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَقَبِلَتْ فَالْخِيَارُ بَاطِلٌ إذَا كَانَ لِلزَّوْجِ، وَهُوَ جَائِزٌ إذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ، فَإِنْ رَدَّتْ الْخِيَارَ فِي الثَّلَاثِ بَطَلَ، وَإِنْ لَمْ تَرُدَّ طَلُقَتْ وَلَزِمَهَا الْأَلْفُ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَقَالَا: الْخِيَارُ بَاطِلٌ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ وَعَلَيْهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ) لِأَنَّ الْخِيَارَ لِلْفَسْخِ بَعْدَ الِانْعِقَادِ لَا لِلْمَنْعِ مِنْ الِانْعِقَادِ، وَالتَّصَرُّفَانِ لَا يَحْتَمِلَانِ الْفَسْخَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ لِأَنَّهُ فِي جَانِبِهِ يَمِينٌ وَمِنْ جَانِبِهَا شَرْطُهَا.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْخُلْعَ فِي جَانِبِهَا بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ حَتَّى يَصِحَّ رُجُوعُهَا، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءِ الْمَجْلِسِ فَيَصِحُّ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ، أَمَّا فِي جَانِبِهِ يَمِينٌ حَتَّى لَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءِ الْمَجْلِسِ، وَلَا خِيَارَ فِي الْأَيْمَانِ، وَجَانِبُ الْعَبْدِ فِي الْعَتَاقِ مِثْلُ جَانِبِهَا فِي الطَّلَاقِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فَقَبِلَتْ) أَيْ الطَّلَاقَ عَلَى حُكْمِهِ مِنْ الْتِزَامِ الْمَالِ وَالْخِيَارِ (فَالْخِيَارُ بَاطِلٌ إذَا كَانَ لِلزَّوْجِ) فَبِمُجَرَّدِ قَبُولِهَا ذَلِكَ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَيَلْزَمُهَا الْمَالُ (وَهُوَ جَائِزٌ إذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ) فَلَا يَقَعُ بِقَبُولِهَا حَتَّى تَسْقُطَ الْخِيَارَ أَوْ تَمْضِيَ الْأَيَّامُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ وَقَعَ وَلَزِمَهَا الْمَالُ (فَإِنْ رَدَّتْ الْخِيَارَ فِي الْأَيَّامِ يَبْطُلُ) الطَّلَاقُ وَلُزُومُ الْمَالِ (وَهَذَا) التَّفْصِيلُ كُلُّهُ (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْعِبَارَةَ الْجَيِّدَةَ أَنْ يُقَالَ فَإِنْ رَدَّتْ اخْتِيَارَ الطَّلَاقِ بِأَنْ قَالَتْ لَا أَخْتَارُ الطَّلَاقَ، وَعِبَارَةُ قَاضِي خَانْ: فَإِنْ رَدَّتْ الطَّلَاقَ (وَقَالَا: الْخِيَارُ فِي الْوَجْهَيْنِ بَاطِلٌ، وَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ بِمُجَرَّدِ قَبُولِهَا) وَعَلَيْهَا الْمَالُ (وَجْهُ قولهِمَا أَنَّ الْخِيَارَ لِلْفَسْخِ بَعْدَ الِانْعِقَادِ) لِأَنَّهُ لَمْ يَشْرَعْ إلَّا فِي عَقْدٍ لَازِمٍ كَالْبَيْعِ وَالْكِتَابَةِ (لَا لِلْمَنْعِ مِنْ الِانْعِقَادِ وَالتَّصَرُّفَانِ): أَعْنِي إيجَابَهُ وَقَبُولَهَا (لَا يَحْتَمِلَانِ الْفَسْخَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ) أَيْ لَا مِنْهُ وَلَا مِنْهَا (لِأَنَّهُ فِي جَانِبِهِ يَمِينٌ) إذْ حَاصِلُهُ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِقَبُولِهَا الْمَالِ (وَفِي جَانِبِهَا شَرْطُهُ) أَيْ شَرْطُ هَذِهِ الْيَمِينِ بِتَأْوِيلِ الْحَلِفِ، فَإِذَا قَبِلَتْ كَانَ ذَلِكَ وُجُودُ الشَّرْطِ، وَشَرْطُ الْيَمِينِ إذَا وُجِدَتْ لَا يَتَصَوَّرُ فَسْخُهَا فَتَعَذَّرَ فَسْخُهَا، وَلَمْ يُمْكِنْ جَعْلَ الْخِيَارِ مَانِعًا مِنْ الِانْعِقَادِ لِمَا مَرَّ فَيَبْطُلُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَإِذَا بَطَلَ انْبَرَمَ مَا شُرِطَ فِيهِ (وَلَهُ أَنَّ الْخُلْعَ فِي جَانِبِهَا بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ) يَعْنِي مُعَاوَضَةً (وَلِذَا صَحَّ رُجُوعُهَا) عَنْهُ إذَا ابْتَدَأَتْ قَبْلَ أَنْ يَقْبَلَ هُوَ (وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءِ الْمَجْلِسِ) بِالِاتِّفَاقِ بَيْنَنَا، حَتَّى لَوْ قَامَتْ فَقَبِلَ هُوَ أَوْ قَامَتْ ثُمَّ قَبِلَتْ فِيمَا إذَا كَانَ هُوَ الْمُبْتَدِي لَا يَصِحُّ، وَلَوْ ذَكَرْته بِصَرِيحِ الشَّرْطِ.
فِي الْكَافِي لِلْحَاكِمِ أَبِي الْفَضْلِ إذَا قَالَتْ إنْ طَلَّقْتنِي ثَلَاثًا فَلَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ، فَإِنْ فَعَلَ فِي الْمَجْلِسِ فَلَهُ الْأَلْفُ، وَإِنْ فَعَلَهُ بَعْدَهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ (وَفِي جَانِبِهِ يَمِينٌ) كَمَا قَالَا (حَتَّى لَا يَصِحَّ رُجُوعُهُ) بَعْدَ قولهِ أَنْتِ أَوْ هِيَ طَالِقٌ عَلَى كَذَا أَوْ بِكَذَا (وَيَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءِ الْمَجْلِسِ) فَلَا يَبْطُلُ إلَّا أَنْ يَنْقَضِيَ مَجْلِسُ خِطَابِهَا أَوْ مَجْلِسُ بُلُوغِهَا الْخَبَرُ قَبْلَ أَنْ يَقْبَلَ، وَيَصِحُّ تَعْلِيقُهُ وَإِضَافَتُهُ، حَتَّى لَوْ قَالَ إذَا جَاءَ غَدٌ فَقَدْ خَالَعْتكِ عَلَى أَلْفٍ أَوْ فَقَدْ طَلَّقْتُك عَلَى أَلْفٍ وَقَبِلَتْ فِي الْغَدِ فِي مَجْلِسِ عِلْمِهَا وَقَعَ وَلَزِمَهَا الْمَالُ، وَلَا يَصِحُّ قَبُولُهَا قَبْلَ الْغَدِ لِأَنَّ نَفْسَ الْإِيجَابِ مُعَلَّقٌ بِالشَّرْطِ وَهُوَ عَدَمُ قَبْلِهِ، وَلَا يَصِحُّ الْقَبُولُ قَبْلَ الْإِيجَابِ (وَلَا خِيَارَ فِي الْأَيْمَانِ) فَبَطَلَ خِيَارُهُ، وَيَصِحُّ فِي الْبَيْعِ فَيَصِحُّ خِيَارُهَا، وَكَوْنُهُ شَرْطُ يَمِينِهِ لَا يَبْطُلُ حَقِيقَتَهُ فِي نَفْسِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ إنْ بِعْتُك هَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ يَكُونُ نَفْسُ الْبَيْعِ شَرْطَ يَمِينِهِ حَتَّى يَعْتِقَ بِوُجُودِهِ وَلَمْ يَبْطُلْ بِهِ كَوْنُهُ مُعَاوَضَةً مُسْتَلْزِمَةً لِحُكْمِهَا مِنْ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَبِالْخِيَارِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ إنْ دَخَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَنَّك بِالْخِيَارِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ خِيَارٌ فِي الطَّلَاقِ لَا مُعَاوَضَةٌ.
فَإِنَّ قِيلَ: ثُبُوتُ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرَهُ.
فَالْجَوَابُ أَنَّا أَثْبَتْنَاهُ هُنَا بِدَلَالَةِ النَّصِّ، فَإِنَّ ثُبُوتَهُ فِي الْبَيْعِ لِدَفْعِ الْغَبْنِ فِي الْأَمْوَالِ وَالْغَبْنُ فِي النُّفُوسِ أَضَرُّ، وَالْحَاجَةُ إلَى التَّرَوِّي فِيهِ أَكْثَرُ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا يَفُوتُهَا هَذَا الِازْدِوَاجُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْصُلُ مِثْلُهُ لَهَا أَبَدًا، وَهَذَا الْمَعْنَى يَقِفُ عَلَيْهِ كُلُّ لُغَوِيٍّ بَعْدَ عِلْمِهِ بِشَرْعِيَّتِهِ فِي الْبَيْعِ فَكَانَ بِدَلَالَةِ النَّصِّ.
قولهُ: (وَجَانِبُ الْعَبْدِ فِي الْعَتَاقِ) أَيْ عَلَى مَالٍ (كَجَانِبِهَا فِي الطَّلَاقِ) فَيَصِحُّ فِيهِ شَرْطُ الْخِيَارِ لَهُ إذَا قَالَ أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنَّك بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.
فَرْعٌ:
مِنْ صُوَرِ تَعْلِيقِ الْخُلْعِ أَنْ يَقول: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَقَدْ خَلَعْتُك عَلَى أَلْفٍ فَتَرَاضَيَا عَلَيْهِ فَفَعَلَتْ صَحَّ الْخُلْعُ، ذَكَرَهُ فِي عَلَامَةِ السِّينِ مِنْ التَّجْنِيسِ، لِأَنَّ التَّعْلِيقَ مِنْ الزَّوْجِ يَجُوزُ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ قَبُولَهَا قَبْلَ الشَّرْطِ.
وَفِي الْوَجِيزِ: إذَا قَالَ إذَا قَدِمَ فُلَانٌ فَقَدْ خَالَعْتكِ عَلَى أَلْفٍ وَإِذَا جَاءَ غَدٌ إلَخْ كَانَ الْقَبُولُ إلَيْهَا بَعْدَ مَجِيءِ الْوَقْتِ وَقُدُومِ فُلَانٍ.

متن الهداية:
(وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ طَلَّقْتُك أَمْسِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَمْ تَقْبَلِي فَقَالَتْ قَبِلْت فَالْقول قول الزَّوْجِ، وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ بِعْت مِنْك هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَمْسِ فَلَمْ تَقْبَلْ فَقَالَ: قَبِلْت فَالْقول قول الْمُشْتَرِي) وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الطَّلَاقَ بِالْمَالِ يَمِينٌ مِنْ جَانِبِهِ فَالْإِقْرَارُ بِهِ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالشَّرْطِ لِصِحَّتِهِ بِدُونِهِ، أَمَّا الْبَيْعُ فَلَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبُولِ وَالْإِقْرَارُ بِهِ إقْرَارٌ بِمَا لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِ فَإِنْكَارُهُ الْقَبُولَ رُجُوعٌ مِنْهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فَالْقول قول الزَّوْجِ) أَيْ مَعَ يَمِينِهِ.
وَحَقِيقَةُ الْفَرْقِ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ أَنَّ قولهُ طَلَّقْتُك أَمْسِ عَلَى أَلْفٍ إقْرَارٌ بِمُجَرَّدِ الْيَمِينِ لَا بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ إذْ هُوَ لَازِمُ وُجُودِ الشَّرْطِ لَا لَازِمُهُ، وَالْمَوْجُودُ بَعْدَ هَذَا مِنْهُ وَمِنْهَا اخْتِلَافٌ فِي وُجُودِ الشَّرْطِ وَهِيَ تَدَّعِيهِ لَتُثْبِتَ الطَّلَاقَ وَهُوَ مُنْكِرٌ غَيْرُ مُنَاقِضٍ إذْ لَمْ يَقْتَضِ إنْكَارُهُ الْقَبُولَ رُجُوعَهُ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ، وَالْقول لِلْمُنْكِرِ بِخِلَافِ قولهِ بِعْتُك فَإِنَّهُ إقْرَارٌ بِقَبُولِ الْمُشْتَرِي إذْ الْبَيْعُ لَا يَقُومُ إلَّا بِهِ، فَإِنْكَارُهُ قَبُولَهُ رُجُوعٌ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ فَلَا يُقْبَلُ، حَتَّى لَوْ كَانَ قَالَ لَهَا بِعْتُك طَلَاقَك أَمْسِ فَلَمْ تَقْبَلِي فَقَالَتْ بَلْ قَبِلْت كَانَ الْقول قولهَا، وَقولهُ لِعَبْدِهِ أَعْتَقْتُك أَمْسِ عَلَى أَلْفٍ فَلَمْ تَقْبَلْ وَبِعْتُك أَمْسِ نَفْسَك بِأَلْفٍ فَلَمْ تَقْبَلْ عَلَى قِيَاسِ قول الزَّوْجِ لَهَا.
وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَخَوَاتٌ فِي كُتُبِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هِيَ: قَالَ لَهَا قَدْ طَلَّقْتُك وَاحِدَةً بِأَلْفٍ فَقَبِلَتْ فَقَالَتْ إنَّمَا سَأَلْتُك ثَلَاثًا بِأَلْفٍ فَطَلَّقْتَنِي وَاحِدَةً فَلَكَ ثُلُثُهَا الْقول لِلْمَرْأَةِ مَعَ يَمِينِهَا، فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الزَّوْجِ وَكَذَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْجُعَلِ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْخُلْعِ، أَوْ قَالَتْ اُخْتُلِعَتْ بِغَيْرِ شَيْءٍ فَالْقول قولهَا وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الزَّوْجِ، أَمَّا إذَا اتَّفَقَا أَنَّهَا سَأَلَتْهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا بِأَلْفٍ وَقَالَتْ طَلَّقْتنِي وَاحِدَةً وَقَالَ هُوَ ثَلَاثًا فَالْقول قولهُ إنْ كَانَا فِي الْمَجْلِسِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ فِي مَجْلِسِ سُؤَالِهَا الثَّلَاثِ بِأَلْفٍ كَانَ لَهُ الْأَلْفُ، فَغَايَةُ هَذَا أَنْ يَكُونَ مُوقِعًا الْبَاقِيَ فِي الْمَجْلِسِ فَيَكُونُ مِثْلُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ لَزِمَهَا الثَّلَاثُ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ مِنْ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَلَا يَكُونُ لِلزَّوْجِ إلَّا ثُلُثُ الْأَلْفِ، وَإِنْ قَالَتْ سَأَلْتُك أَنْ تُطَلِّقَنِي ثَلَاثًا عَلَى أَلْفٍ فَطَلَّقْتنِي وَاحِدَةً فَلَا شَيْءَ لَك: يَعْنِي عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ هُوَ بَلْ سَأَلْتِنِي وَاحِدَةً عَلَى أَلْفٍ فَطَلَّقْتُكِيهَا فَالْقول قولهَا عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَإِنْ قَالَتْ سَأَلْتُك ثَلَاثًا بِأَلْفٍ فَطَلَّقْتنِي فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَاحِدَةً وَالْبَاقِيَ فِي غَيْرِهِ فَقَالَ بَلْ الثَّلَاثُ فِيهِ فَالْقول لَهَا.
وَإِنْ قَالَتْ سَأَلْتُك أَنْ تُطَلِّقَنِي أَنَا وَضَرَّتِي عَلَى أَلْفٍ فَطَلَّقْتنِي وَحْدِي وَقَالَ طَلَّقْتهَا مَعَك وَقَدْ افْتَرَقَا عَنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ فَالْقول لَهَا وَعَلَيْهَا حِصَّتُهَا مِنْ الْأَلْفِ وَالْأُخْرَى طَالِقٌ بِإِقْرَارِهِ، وَكَذَا إنْ قَالَتْ فَلَمْ تُطَلِّقْنِي وَلَا هِيَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ.
وَمَسْأَلَةُ خُلْعِ الثِّنْتَيْنِ بِسُؤَالٍ وَاحِدٍ تَنْبِيهٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا خَلَعَ امْرَأَتَيْهِ عَلَى أَلْفٍ كَانَتْ مُنْقَسِمَةً عَلَى قَدْرِ مَا تَزَوَّجَهُمَا عَلَيْهِ مِنْ الْمَهْرِ حَتَّى لَوْ سَأَلَتَاهُ طَلَاقَهُمَا عَلَى أَلْفٍ أَوْ بِأَلْفٍ فَطَلَّقَ إحْدَاهُمَا لَزِمَ الْمُطَلَّقَةَ حِصَّتُهَا مِنْ الْأَلْفِ عَلَى قَدْرِ مَا تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ طَلَّقَ الْأُخْرَى فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَيْضًا لَزِمَهَا حِصَّتُهَا لَا أَنَّ الْأَلْفَ تَنْقَسِمُ عَلَيْهِمَا بِالسَّوِيَّةِ.
وَلَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَمَا افْتَرَقُوا فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَإِذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ الْخُلْعَ وَأَنْكَرَهُ الزَّوْجُ فَأَقَامَتْ بَيِّنَةً فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْأَلْفِ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ أَوْ اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الْجُعْلِ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُدَّعِي لِلْخُلْعِ وَالْمَرْأَةُ مُنْكِرَةٌ فَشَهِدَ أَحَدُ شَاهِدِيهِ بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَالزَّوْجُ يَدَّعِي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ جَازَ شَهَادَتُهُمَا عَلَى أَلْفٍ، وَإِنْ ادَّعَى أَلْفًا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا وَلَزِمَهُ الطَّلَاقُ بِإِقْرَارِهِ، وَكَذَا لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الْجُعْلِ أَيْضًا، الْكُلُّ مِنْ مُخْتَصَرِ الْحَاكِمِ أَبِي الْفَضْلِ لِكَلَامِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْعِوَضِ فَالْقول لَهَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَتَحَالَفَانِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَالْمُبَارَأَةُ كَالْخُلْعِ كِلَاهُمَا يُسْقِطَانِ كُلَّ حَقٍّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالنِّكَاحِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَسْقُطُ فِيهِمَا إلَّا مَا سَمَّيَاهُ، وَأَبُو يُوسُفَ مَعَهُ فِي الْخُلْعِ وَمَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمُبَارَأَةِ.
لِمُحَمَّدٍ أَنَّ هَذِهِ مُعَاوَضَةٌ.
وَفِي الْمُعَاوَضَاتِ يُعْتَبَرُ الْمَشْرُوطُ لَا غَيْرُهُ.
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُبَارَأَةَ مُفَاعَلَةٌ مِنْ الْبَرَاءَةِ فَتَقْتَضِيهَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَأَنَّهُ مُطْلَقٌ قَيَّدْنَاهُ بِحُقُوقِ النِّكَاحِ لِدَلَالَةِ الْغَرَضِ أَمَّا الْخُلْعُ فَمُقْتَضَاهُ الِانْخِلَاعُ وَقَدْ حَصَلَ فِي نَقْضِ النِّكَاحِ وَلَا ضَرُورَةَ إلَى انْقِطَاعِ الْأَحْكَامِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْخُلْعَ يُنَبِّئُ عَنْ الْفَصْلِ وَمِنْهُ خَلَعَ النَّعْلَ وَخَلَعَ الْعَمَلَ وَهُوَ مُطْلَقٌ كَالْمُبَارَأَةِ فَيُعْمَلُ بِإِطْلَاقِهِمَا فِي النِّكَاحِ وَأَحْكَامِهِ وَحُقُوقِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَالْمُبَارَأَةُ كَالْخُلْعِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مُفَاعَلَةٌ مِنْ الْبَرَاءَةِ وَتَرْكُ الْهَمْزَةِ خَطَأٌ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ، وَهُوَ أَنْ يَقول بَارَأْتُك عَلَى أَلْفٍ وَتَقْبَلَ، وَقولهُ (يُسْقِطَانِ كُلَّ حَقٍّ إلَى آخِرِهِ) مُقَيَّدٌ بِالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ إذَا كَانَتْ مَفْرُوضَةً، بِخِلَافِ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ وَالسُّكْنَى فِي الْعِدَّةِ لَا تَقَعُ الْبَرَاءَةُ مِنْهُمَا وَإِنْ كَانَ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ، بَلْ لِلْمُخْتَلِعَةِ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى إلَّا إنْ اخْتَلَعَتْ عَلَى نَفَقَةِ الْعِدَّةِ فَتَسْقُطُ دُونَ السُّكْنَى لِأَنَّهَا حَقُّ الشَّرْعِ، وَإِطْلَاقُ جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ يَقْتَضِي سُقُوطَ الْمَهْرِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ سَوَاءٌ سَمَّيَا شَيْئًا فِي الْخُلْعِ أَوْ لَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُمَا إمَّا أَنْ لَا يُسَمِّيَا شَيْئًا بِأَنْ يَقول خَالَعْتكِ فَقَبِلْت وَلَمْ يَذْكُرَا شَيْئًا أَوْ سَمَّيَا الْمَهْرَ أَوْ بَعْضَهُ أَوْ مَالًا آخَرَ، فَإِنْ لَمْ يُسَمِّيَا شَيْئًا فَفِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: إحْدَاهَا لَا يَبْرَأُ الزَّوْجُ عَنْ الْمَهْرِ حَتَّى تَأْخُذَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا.
وَالثَّانِيَةُ يَبْرَأُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْهُ وَعَنْ دَيْنٍ آخَرَ سِوَاهُ.
وَالثَّالِثَةُ يَبْرَأُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ الْمَهْرِ لَا غَيْرُ.
فَلَا يُطَالَبُ بِهِ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ كَانَا قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ مَقْبُوضًا كَانَ أَوْ لَا حَتَّى لَا تَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ إنْ لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا وَلَا يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَيْهَا بِهِ إنْ كَانَ مَقْبُوضًا كُلَّهُ، وَالْخُلْعُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَالَ مَذْكُورٌ عُرْفًا بِالْخُلْعِ فَحَيْثُ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ لَزِمَ مَا هُوَ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ بِقَرِينَةِ أَنَّ الْمُرَادَ الِانْخِلَاعُ مِنْهُ.
وَإِنْ سَمَّيَا الْمَهْرَ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ وَلَيْسَ مَقْبُوضًا سَقَطَ عَنْهُ كُلُّهُ، وَإِنْ كَانَ مَقْبُوضًا رَجَعَ عَلَيْهَا بِجَمِيعِهِ بِالشَّرْطِ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَإِنْ كَانَ مَقْبُوضًا فَفِي الْقِيَاسِ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِهِ وَبِقَدْرِ نِصْفِهِ كُلِّهِ بِالشَّرْطِ وَنِصْفِهِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ حَتَّى لَوْ كَانَ أَلْفًا رَجَعَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ بِالْمَقْبُوضِ فَقَطْ لِأَنَّ الْمَهْرَ اسْمٌ لِمَا تَسْتَحِقُّهُ الْمَرْأَةُ وَهُوَ نِصْفُ الْمُسَمَّى قَبْلَ الدُّخُولِ فَيَجِبُ عَلَيْهَا رَدُّهُ بِالشَّرْطِ وَرَدُّ النِّصْفِ الْآخَرِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ لِأَنَّهَا قَبَضَتْ مَالًا تَسْتَحِقُّهُ فَيَجِبُ عَلَيْهَا رَدُّهُ، كَذَا ذَكَرَهُ قَاضِي خَانْ.
قِيلَ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ إلَّا النِّصْفُ بِالشَّرْطِ وَيَسْقُطَ الْبَاقِي بِحُكْمِ الْخُلْعِ، كَمَا إذَا خَالَعَهَا عَلَى مَالٍ آخَرَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَدْ قَبَضَتْ كُلَّ الْمَهْرِ حَيْثُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا رَدُّ شَيْءٍ مِنْهُ وَسَيَأْتِي، وَكَمَا إذَا سَمَّيَا بَعْضَ الْمَهْرِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا الْمُسَمَّى بِالشَّرْطِ وَيَسْقُطُ الْبَاقِي بِحُكْمِ الْخُلْعِ، وَلَكِنْ قَدْ يُقَالُ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ كُلُّ الْمُسَمَّى بِالشَّرْطِ لِأَنَّ الْمَهْرَ اسْمٌ لِمَا صَحَّتْ تَسْمِيَتُهُ فِي الْعَقْدِ غَيْرُ أَنَّهُ سَقَطَ نِصْفُهُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَاشْتِرَاطُ الْمَهْرِ لَهُ كَانَ قَبْلَ الطَّلَاقِ فَيَنْصَرِفُ إلَى تَمَامِهِ، فَإِذَا كَانَتْ قَبَضَتْهُ وَوَقَعَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ رَجَعَ عَلَيْهَا بِكُلِّهِ بِالشَّرْطِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا فَفِي الْقِيَاسِ يَسْقُطُ عَنْهُ كُلُّهُ وَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِخَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ قَدْرَهُ بِالشَّرْطِ وَهِيَ تَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ خَمْسَمِائَةٍ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَيَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا بِقَدْرِهِ وَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِالزَّائِدِ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ لِمَا أَنَّ الْمَهْرَ اسْمٌ لِمَا تَسْتَحِقُّهُ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ فَيَجِبُ لَهَا ذَلِكَ.
وَيَجِبُ لَهُ مِثْلُهُ عَلَيْهَا بِالشَّرْطِ فَيَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا، وَإِنْ سَمَّيَا بَعْضَ الْمَهْرِ بِأَنْ خَالَعَهَا عَلَى عُشْرِهِ مَثَلًا وَالْمَهْرُ أَلْفٌ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ وَكُلُّهُ مَقْبُوضٌ رَجَعَ عَلَيْهَا بِمِائَةٍ بِالشَّرْطِ وَسَلَّمَ الْبَاقِيَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَقْبُوضٍ سَقَطَ عَنْهُ كُلُّهُ مِائَةٌ بِالشَّرْطِ وَالْبَاقِي بِحُكْمِ الْخُلْعِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَكُلُّهُ مَقْبُوضٌ فَفِي الْقِيَاسِ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِسِتِّمِائَةٍ بِالشَّرْطِ وَخَمْسِمِائَةٍ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِخَمْسِينَ لِأَنَّهُ عُشْرُ مَهْرِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَرِئَتْ الْمَرْأَةُ عَنْ الْبَاقِي بِحُكْمِ لَفْظِ الْخُلْعِ، وَعَلَى مَا بَحَثْنَاهُ يَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعَ بِمِائَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا سَقَطَ كُلُّهُ اسْتِحْسَانًا عُشْرُهُ بَدَلُ الْخُلْعِ وَالنِّصْفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَالْبَاقِي بِحُكْمِ الْخُلْعِ.
وَإِنْ سَمَّيَا مَالًا آخَرَ غَيْرَ الْمَهْرِ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ وَالْمَهْرُ مَقْبُوضٌ فَلَهُ الْمُسَمَّى لَيْسَ غَيْرُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا فَلَهُ الْمُسَمَّى وَسَقَطَ عَنْهُ الْمَهْرُ بِحُكْمِ الْخُلْعِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَالْمَهْرُ مَقْبُوضٌ فَلَهُ الْمُسَمَّى وَسَلَّمَ لَهَا مَا قَبَضَتْ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا رَدُّ شَيْءٍ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا فَلَهُ الْمُسَمَّى بِالشَّرْطِ وَسَقَطَ عَنْهُ الْمَهْرُ بِحُكْمِ الْخُلْعِ.
إذَا عَرَفْت هَذَا جِئْنَا إلَى الْخِلَافِيَّةِ (وَجْهُ قول مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هَذِهِ مُعَاوَضَةٌ) وَأَثَرُ الْمُعَاوَضَةِ لَيْسَ إلَّا فِي وُجُوبِ الْمُسَمَّى لَا فِي إسْقَاطِ غَيْرِهِ وَصَارَ كَمَا إذَا وَقَعَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ، وَلِذَا لَا يَسْقُطُ دَيْنٌ آخَرُ وَلَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ آثَارِ النِّكَاحِ مَعَ أَنَّ النَّفَقَةَ أَضْعَفُ مِنْ الْمَهْرِ (وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُبَارَأَةَ مِنْ الْبَرَاءَةِ فَتَقْتَضِي الْبَرَاءَةَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَأَنَّهُ مُطْلَقٌ) فِي كُلِّ دَيْنٍ إلَّا أَنَّا (قَيَّدْنَاهُ بِالْوَاجِبِ بِالنِّكَاحِ لِدَلَالَةِ الْغَرَضِ) فَإِنَّ الْغَرَضَ الْمُبَارَأَةُ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِهِ، أَمَّا الْخُلْعُ فَإِنَّمَا يَقْتَضِي فَصْلًا وَانْخِلَاعًا، وَحَقِيقَتُهُ تَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ النِّكَاحِ غَيْرُ مُتَوَقِّفَةٍ عَلَى سُقُوطِ الْمَهْرِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْخُلْعَ صَلَّحَ وَضْعًا شَرْعًا لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ الْكَائِنَةِ بِسَبَبِ النُّشُوزِ الْكَائِنِ بِسَبَبِ الْوَصْلَةِ الْقَائِمَةِ بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ النِّكَاحِ، فَتَمَامُ تَحَقُّقِ مَقْصُودِهِ بِجَعْلِهِ مُسْقِطًا لِمَا وَجَبَ بِسَبَبِ تِلْكَ الْوَصْلَةِ فَيَسْقُطُ الْمَهْرُ وَإِلَّا عَادَ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْصِ لِأَنَّ لَفْظَهُ وَلَفْظَ الْمُبَارَأَةِ يُفِيدُ إطْلَاقَهُمَا ذَلِكَ فِي الْمُبَارَأَةِ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَلَفْظُ الْخُلْعِ يُفِيدُ انْخِلَاعَ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنْ الْآخَرِ دُونَ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ، فَإِنَّهُ إذَا انْخَلَعَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ بِأَنْ يَنْخَلِعَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ انْخَلَعَ الْآخَرُ كَذَلِكَ، وَثُبُوتُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِسُقُوطِ مُطَالَبَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا الْآخَرَ بِمُوَاجِبِ النِّكَاحِ، بِخِلَافِ لَفْظِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ بِالنِّكَاحِ.
عَلَى أَنَّ رِوَايَةَ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الطَّلَاقَ عَلَى مَالٍ كَالْخُلْعِ يَسْقُطُ بِهِ مَا يَسْقُطُ بِالْخُلْعِ، وَبِخِلَافِ دَيْنٍ آخَرَ لِأَنَّ شَرْعِيَّةَ الْخُلْعِ لِقَطْعِ النِّزَاعِ الْحَاصِلِ بِسَبَبِ وَصِلَةِ النِّكَاحِ لَا مُطْلَقًا، وَبِخِلَافِ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ مَوَاجِبِ النِّكَاحِ، بَلْ يَحْدُثُ وُجُوبُ تَعَلُّقِهَا بَعْدَهُ حَتَّى لَوْ شَرَطَا سُقُوطَهَا فِي الْخُلْعِ سَقَطَتْ بِاعْتِبَارِ مَا تَسْتَحِقُّهُ وَقْتَ الْخُلْعِ، وَالْبَاقِي سَقَطَ تَبَعًا فِي ضِمْنِ الْخُلْعِ، أَمَّا لَوْ لَمْ تَسْقُطْهَا حَتَّى انْخَلَعَتْ ثُمَّ أَسْقَطَتْ لَا تَسْقُطُ لِإِسْقَاطِهَا حِينَئِذٍ قَصْدًا لِمَا لَمْ يَجِبْ، فَإِنَّهَا إنَّمَا تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا بِخِلَافِ ذَلِكَ الْإِسْقَاطِ الضِّمْنِيِّ، وَأَمَّا السُّكْنَى فَلَمَّا كَانَتْ فِي غَيْرِ بَيْتِ الطَّلَاقِ مَعْصِيَةٌ لَا يَصِحُّ إسْقَاطُهَا بِحَالٍ إلَّا إنْ أَبْرَأَتْهُ عَنْ مَئُونَةِ السُّكْنَى بِأَنْ كَانَتْ سَاكِنَةً فِي بَيْتِ نَفْسِهَا، أَوْ أَنَّهَا تُعْطَى الْأُجْرَة مِنْ مَالِهَا فَإِنَّهُ يَصِحُّ حِينَئِذٍ الْتِزَامُهَا ذَلِكَ.
وَفِي الْقُنْيَةِ: الْإِبْرَاءُ وُجِدَ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ النَّفَقَةِ فَيَصِحُّ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً عِنْدَهُ.
قِيلَ مَا سَبَقَ هُوَ الصَّحِيحُ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْقُنْيَةِ يَبْطُلُ بِالْإِبْرَاءِ بَعْدَ الْخُلْعِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ، لَكِنْ فِي الْيَنَابِيعِ: لَوْ أَبْرَأَتْهُ عَنْ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ بَعْدَ الْخُلْعِ صَحَّ، قَالَ: هَكَذَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ انْتَهَى.
بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ مِنْهَا حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ مِنْ النَّفَقَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ لَا يَصِحُّ.
هَذَا وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقول: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ يَقْتَضِي سُقُوطَ الْمَهْرِ بِالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ، وَالثَّانِي يُوجِبُ كَوْنَ لَفْظِ الطَّلَاقِ مُطْلَقًا مُسْقِطًا لَهُ لِأَنَّهُ يُفِيدُ انْطِلَاقَهَا: أَيْ الْمَرْأَةِ، وَانْطِلَاقُهَا عَنْ الزَّوْجِ يُوجِبُ مِثْلَهُ فِي حَقِّهِ، وَتَحَقُّقُ حَقِيقَةِ انْطِلَاقِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنْ الْآخَرِ عَلَى الْكَمَالِ يَقْطَعُ مُطَالَبَةَ كُلٍّ الْآخَرَ بِمُوَاجِبِ النِّكَاحِ كَمَا قُلْنَا فِي الْخُلْعِ بِعَيْنِهِ.
فَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ تَرْجِيحُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَالْتِزَامُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ أَنَّهُ أَيْضًا يَسْقُطُ الْمَهْرُ كَالْخُلْعِ وَإِلَّا فَالْحَالُ مَا عَلِمَتْ.
وَلَوْ كَانَ الْخُلْعُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ: أَيْ بِأَنْ قَالَ بِعْتُك نَفْسَك بِأَلْفٍ فَقَالَتْ اشْتَرَيْت اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي أَنَّهُ عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَالْخُلْعِ وَالْمُبَارَأَةُ أَوَّلًا؟ وَصَحَّحَ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى أَنَّهُ كَالْخُلْعِ وَالْمُبَارَأَةِ، وَتَرْجِيحُ قول مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَلَا يَزْدَادُ عَلَى مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ يُنَبِّئُ عَنْ الْفَصْلِ فَالْفَصْلُ وُجِدَ عَلَى مِقْدَارٍ رَضِيَا بِهِ فَكَيْفَ يَسْقُطُ غَيْرُهُ ذُهُولٌ عَنْ التَّحْقِيقِ، فَإِنَّهُ إذَا أَنْبَأَ عَنْ الِانْفِصَالِ فِي مُتَعَلِّقَاتِ النِّكَاحِ وَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ تَسْقُطَ مُطَالَبَةُ كُلٍّ الْآخَرَ بِالْمَهْرِ ثُمَّ وَقَعَ التَّرَاضِي عَلَى إثْبَاتِهِ بِمَالٍ فَقَدْ وَقَعَ التَّرَاضِي عَلَى إثْبَاتِ سُقُوطِ مِلْكِ النِّكَاحِ وَالْمَهْرِ بِذَلِكَ الْمَالِ فَيَثْبُتُ بِمُقْتَضَاهُ مَعَ ذَلِكَ الْمَالِ بِالضَّرُورَةِ.
تَنْبِيهٌ:
لَا يَسْقُطُ الْمَهْرُ بِخُلْعِ الْأَجْنَبِيِّ بِمَالٍ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْأَجْنَبِيِّ فِي إسْقَاطِ حَقِّهَا، ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَكَذَا الْأَمَةُ إذَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى يَقَعُ الطَّلَاقُ وَلَا يَسْقُطُ الْمَهْرُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بِإِذْنِهِ فَيَسْقُطُ وَتُبَاعُ فِي بَدَلِ الْخُلْعِ، وَفِيمَا إذَا كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا تُطَالَبُ بِهِ إلَّا بَعْدَ الْعِتْقِ، وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرَةِ فِي الْإِذْنِ يُؤَدِّيَانِ مِنْ كَسْبِهِمَا.
فُرُوعٌ:
إذَا شَرَطَا بَدَلًا لِلْخُلْعِ الْبَرَاءَةَ مِنْ نَفَقَةِ الْوَلَدِ وَهِيَ مَئُونَةُ الرَّضَاعِ إنْ وَقَّتَا لِذَلِكَ وَقْتًا كَسَنَةٍ مَثَلًا صَحَّ وَلَزِمَ وَإِلَّا لَا يَصِحُّ.
وَفِي الْمُنْتَقَى: إنْ كَانَ الْوَلَدُ رَضِيعًا صَحَّ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ الْمُدَّةَ وَتُرْضِعُ حَوْلَيْنِ.اهـ.
بِخِلَافِ الْفَطِيمِ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: امْرَأَةٌ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا عَلَى مَهْرِهَا وَنَفَقَةِ عِدَّتِهَا وَعَلَى أَنْ تُمْسِكَ وَلَدَهَا مِنْهُ ثَلَاثَ سِنِينَ أَوْ عَشْرًا بِنَفَقَتِهِ صَحَّ الْخُلْعُ وَيَجِبُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا: يَعْنِي قَدْرَ النَّفَقَةِ، وَهَذَا لِمَا عَلِمْت أَنَّ الْجَهَالَةَ غَيْرَ الْمُتَفَاحِشَةِ مُتَحَمَّلَةٌ فِي الْخُلْعِ، فَإِنْ تَرَكْته عَلَى زَوْجِهَا وَهَرَبَتْ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَأْخُذَ قِيمَةَ النَّفَقَةِ مِنْهَا، وَلَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِكِسْوَةِ الصَّبِيِّ إلَّا إنْ اخْتَلَعَتْ عَلَى نَفَقَتِهِ وَكِسْوَتِهِ فَلَيْسَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ وَإِنْ كَانَتْ الْكِسْوَةُ مَجْهُولَةً، وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَلَدُ رَضِيعًا أَوْ فَطِيمًا، وَلَوْ اخْتَلَعَتْ عَلَى دَرَاهِمَ ثُمَّ اسْتَأْجَرَهَا بِبَدَلِ الْخُلْعِ عَلَى إرْضَاعِ الرَّضِيعِ جَازَ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا بِهِ عَلَى إمْسَاكِ الْفَطِيمِ بِنَفَقَتِهِ وَكِسْوَتِهِ لَا يَجُوزُ.
وَفِي الْمُحِيطِ: ذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي امْرَأَةٍ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِمَالِهَا عَلَيْهِ مِنْ الْمَهْرِ وَبِرَضَاعِ وَلَدِهِ الَّذِي هِيَ حَامِلٌ بِهِ إذَا وَلَدَتْهُ إلَى سَنَتَيْنِ جَازَ، فَإِنْ مَاتَ أَوْ لَمْ يَكُنْ فِي بَطْنِهَا وَلَدٌ تَرُدُّ قِيمَةَ الرَّضَاعِ، وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ سَنَةٍ تَرُدُّ قِيمَةَ رَضَاعِ سَنَةٍ، وَكَذَا إذَا مَاتَتْ هِيَ عَلَيْهَا قِيمَتُهُ انْتَهَى.
وَلَوْ كَانَتْ قَالَتْ عَشْرَ سِنِينَ رَجَعَ عَلَيْهَا بِأُجْرَةِ رَضَاعِ سَنَتَيْنِ وَنَفَقَةُ بَاقِي السِّنِينَ إلَّا أَنْ قَالَتْ عِنْدَ الْخُلْعِ إنْ مَاتَ أَوْ مِتَّ فَلَا شَيْءَ عَلَيَّ فَهُوَ عَلَى مَا شَرَطَتْ قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ.
وَلَوْ اخْتَلَعَتْ عَلَى أَنْ تُمْسِكَهُ إلَى وَقْتِ الْبُلُوغِ صَحَّ فِي الْأُنْثَى لَا الْغُلَامِ، وَإِذَا تَزَوَّجَتْ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَأْخُذَ الْوَلَدَ وَلَا يَتْرُكُهُ عِنْدَهَا، وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا حَقُّ الْوَلَدِ، وَيَنْظُرُ إلَى مِثْلِ إمْسَاكِ الْوَلَدِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ فَيَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهَا.
وَلَوْ اخْتَلَعَتْ عَلَى إرْضَاعِهِ ثُمَّ صَالَحَتْ الزَّوْجَ عَلَى شَيْءٍ يَصِحُّ، وَلَوْ خَالَعَتْهُ عَلَى نَفَقَةِ وَلَدِهِ عَشْرًا وَهِيَ مُعْسِرَةٌ فَطَالَبَتْهُ بِنَفَقَتِهِ يُجْبَرُ عَلَيْهَا وَمَا شُرِطَ حَقٌّ عَلَيْهَا، وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ لَا عَلَى مَا أَفْتَاهُ بَعْضُهُمْ مِنْ سُقُوطِ النَّفَقَةِ، وَلَوْ خَالَعَهَا بِمَالِهَا عَلَيْهِ مِنْ الْمَهْرِ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَهْرِ وَقَعَ وَوَجَبَ عَلَيْهَا رَدُّ الْمَهْرِ، وَمِثْلُهُ لَوْ خَالَعَهَا عَلَى عَبْدِهَا الَّذِي لَهَا عِنْدَهُ أَوْ مَتَاعِهَا ثُمَّ ظَهَرَ أَنْ لَيْسَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ وَقَعَ عَلَى مَهْرِهَا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَبَضَتْهُ سَقَطَ.
وَإِنْ قَبَضَتْهُ رَدَّتْهُ أَوْ مِثْلَهُ أَوْ قِيمَتَهُ وَلَوْ خَالَعَهَا بِمَهْرِهَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ لَهَا عَلَيْهِ مَهْرٌ وَقَعَ بَائِنًا مَجَّانًا، وَلَوْ كَانَ طَلَّقَهَا بِمَهْرِهَا فَقَبِلَتْ وَالزَّوْجُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا مَهْرَ لَهَا وَقَعَ رَجْعِيًّا مَجَّانًا.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ خَلَعَ ابْنَتَهُ وَهِيَ صَغِيرَةٌ بِمَالِهَا لَمْ يَجُزْ عَلَيْهَا) لِأَنَّهُ لَا نَظَرَ لَهَا فِيهِ إذْ الْبُضْعُ فِي حَالَةِ الْخُرُوجِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ، وَالْبَدَلُ مُتَقَوِّمٌ بِخِلَافِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الْبُضْعَ مُتَقَوِّمٌ عِنْدَ الدُّخُولِ وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ خَلْعُ الْمَرِيضَةِ مِنْ الثُّلُثِ وَنِكَاحُ الْمَرِيضِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ لَا يَسْقُطُ الْمَهْرُ وَلَا يَسْتَحِقُّ مَالَهَا، ثُمَّ يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي رِوَايَةٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَقَعُ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ بِشَرْطِ قَبُولِهِ فَيَعْتَبِرُ بِالتَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ (وَإِنْ خَالَعَهَا عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنَّهُ ضَامِنٌ فَالْخُلْعُ وَاقِعٌ وَالْأَلْفُ عَلَى الْأَبِ) لِأَنَّ اشْتِرَاطَ بَدَلِ الْخُلْعِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ صَحِيحٌ فَعَلَى الْأَبِ أَوْلَى.
وَلَا يَسْقُطُ مَهْرُهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ وِلَايَةِ الْأَبِ (وَإِنْ شَرَطَ الْأَلْفَ عَلَيْهَا تَوَقَّفَ عَلَى قَبُولِهَا إنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ، فَإِنْ قَبِلَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ) لِوُجُودِ الشَّرْطِ (وَلَا يَجِبُ الْمَالُ) لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْغَرَامَةِ فَإِنْ قَبِلَهُ الْأَبُ عَنْهَا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ (وَكَذَا إنْ خَالَعَهَا عَلَى مَهْرِهَا وَلَمْ يَضْمَنْ الْأَبُ الْمَهْرَ تَوَقَّفَ عَلَى قَبُولِهَا، فَإِنْ قَبِلَتْ طَلُقَتْ وَلَا يَسْقُطُ الْمَهْرُ) وَإِنْ قَبِلَ الْأَبُ عَنْهَا فَعَلَى الرِّوَايَتَيْنِ (وَإِنْ ضَمِنَ الْأَبُ الْمَهْرَ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ طَلُقَتْ) لِوُجُودِ قَبُولِهِ وَهُوَ الشَّرْطُ وَيَلْزَمُهُ خَمْسُمِائَةٍ اسْتِحْسَانًا.
وَفِي الْقِيَاسِ يَلْزَمُهُ الْأَلْفُ، وَأَصْلُهُ فِي الْكَبِيرَةِ إذَا اخْتَلَعَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ عَلَى أَلْفٍ وَمَهْرُهَا أَلْفٌ فَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهَا خَمْسُمِائَةٍ زَائِدَةٌ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا شَيْءَ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ عَادَةً حَاصِلُ مَا يَلْزَمُهَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لَمْ يَجُزْ عَلَيْهَا) يَحْتَمِلُ عَدَمَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِسُؤَالِ الْأَبِ لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْ بَدَلَ الْخُلْعِ فَصَارَ كَأَنَّ الزَّوْجَ خَاطِبُ الْبِنْتِ بِالْخُلْعِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِهَا وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً، وَيَحْتَمِلُ عَدَمَ لُزُومِ الْمَالِ بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، فَلَمَّا صَرَّحَ بِأَنَّ الْأَصَحَّ وُقُوعُهُ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ الثَّانِي، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا نَظَرَ لَهَا فِيهِ، إذْ الْبُضْعُ حَالَةَ الْخُرُوجِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ وَالْبَدَلُ مُتَقَوِّمٌ، فَإِعْطَاءُ الْمُتَقَوِّمِ مِنْ مَالِهَا بَعُوضٍ غَيْرِ مُتَقَوِّمٍ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى التَّبَرُّعِ بِمَالِهَا.
قولهُ: (بِخِلَافِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الْبُضْعَ مُتَقَوِّمٌ عِنْدَ الدُّخُولِ) فَلَوْ زَوَّجَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ جَازَ عَلَيْهِ وَلَزِمَ الْمَهْرُ فِي مَالِ الِابْنِ لِأَنَّهُ أَعْطَى الْمُتَقَوِّمَ مِنْ مَالِهِ بِمُتَقَوِّمٍ.
قولهُ: (وَلِهَذَا يَعْتَبِرُ خَلْعُ الْمَرِيضَةِ) مُتَّصِلٌ بِكَوْنِ الْبِضْعِ غَيْرِ مُتَقَوِّمٍ حَالَةَ الْخُرُوجِ، وَقَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ أَنَّ الْوَاجِبَ لِلزَّوْجِ إنْ مَاتَتْ فِي الْعِدَّةِ الْأَقَلُّ مِنْ مِيرَاثِهِ وَمِنْ بَدَلِ الْخُلْعِ إذَا كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ فَلَهُ الْأَقَلُّ مِنْ الْإِرْثِ وَالثُّلُثِ إذَا مَاتَتْ فِي الْعِدَّةِ، فَإِنْ مَاتَتْ بَعْدَهَا أَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا فَلَهُ بَدَلُ الْخُلْعِ إنْ خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ.
قولهُ: (وَنِكَاحُ الْمَرِيضِ إلَخْ) مُتَّصِلٌ بِأَنَّهُ مُتَقَوِّمٌ حَالَ الدُّخُولِ.
قولهُ: (وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ) نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُنْتَقَى وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرَ مِنْ أَنَّهُ تَعْلِيقٌ بِقَبُولِ الْأَبِ وَقَدْ وَجَدَ الشَّرْطَ وَمَا ذَكَرَ فِي وَجْهِ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مِنْ أَنَّ الْأَبَ لَمَّا لَمْ يَضْمَنْ الْمَالَ صَارَ كَأَنَّهُ خَاطِبُ الصَّغِيرَةِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِهَا وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهَا الْمَالُ.
وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْخُلْعَ فِي مَعْنَى الْيَمِينِ وَالْأَيْمَانُ لَا تُجْرَى فِيهَا النِّيَابَةُ فَالْمُلَازَمَةُ الْأُولَى مَمْنُوعَةٌ، وَكَوْنُ الْمَوْجُودِ مِنْ الْأَبِ يَمِينًا غَيْرَ صَحِيحٍ، بَلْ مُجَرَّدُ الشَّرْطِ وَشَرْطُ الْيَمِينِ يَصِحُّ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، هَذَا إذَا قَبِلَ الْأَبُ، فَإِنْ قَبِلَتْ وَهِيَ عَاقِلَةٌ تَعْقِلُ أَنَّ النِّكَاحَ جَالِبٌ وَالْخُلْعَ سَالِبٌ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِالِاتِّفَاقِ وَلَا يَلْزَمُهَا الْمَالُ.
وَفِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ: طَلَّقَهَا بِمَهْرِهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ عَاقِلَةٌ فَقَبِلَتْ وَقَعَتْ طَلْقَةٌ وَلَا يَبْرَأُ.
وَإِنْ قَبِلَ أَبُوهَا أَوْ أَجْنَبِيٌّ.
رَوَى هِشَامُ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَقَعُ، وَرَوَى الْهِنْدُوَانِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَقَعُ، وَلَوْ بَلَغَتْ فَأَجَازَتْ جَازَ.
قولهُ: (عَلَى أَنَّهُ) أَيْ الْأَبَ ضَامِنٌ، وَالْمُرَادُ مِنْ الضَّمَانِ هُنَا الْتِزَامُ الْمَالِ لَا الْكَفَالَةِ عَنْ الصَّغِيرَةِ لِعَدَمِ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهَا (فَالْخُلْعُ وَاقِعٌ) سَوَاءٌ خَلَعَهَا الْأَبُ عَلَى مَهْرِهَا وَضَمِنَهُ أَوْ أَلَفَّ مَثَلًا (فَيَجِبُ الْأَلْفُ عَلَيْهِ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ بَدَلِ الْخُلْعِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ صَحِيحٌ فَعَلَى الْأَبِ) وَأَنَّهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهَا بِالْإِقْرَاضِ وَالْإِيدَاعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْإِبْضَاعِ (أَوْلَى) بِخِلَافِ بَدَلِ الْعِتْقِ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا وَهُوَ إثْبَاتُ الْأَهْلِيَّةِ وَهُوَ الْقُوَّةُ عَنْ ذَلِكَ الْإِسْقَاطِ، بِخِلَافِ إسْقَاطِ الْمِلْكِ فِي الْخُلْعِ لَا يَحْصُلُ عَنْهُ لِلْمَرْأَةِ مَا لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا قَبْلَ فَصَارَ الْأَجْنَبِيُّ وَالْأَبُ مِثْلَهَا فِي أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهَا شَيْءٌ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ حَصَلَ مَا ذَكَرْنَا لَهُ، وَالْعِوَضُ لَا يَجِبُ عَلَى غَيْرِ مَنْ يَحْصُلُ لَهُ الْمُعَوَّضُ فَصَارَ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ إلَّا أَنَّ الْبَيْعَ يَفْسُدُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ وَالْخُلْعَ لَا يُفْسِدُ بِهَا (وَلَا يَسْقُطُ مَهْرُهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي وِلَايَةِ الْأَبِ) فَإِذَا بَلَغَتْ تَأْخُذُ نِصْفَ الصَّدَاقِ إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَكُلُّهُ إنْ كَانَ بَعْدَهُ مِنْ الزَّوْجِ وَيَرْجِعُ هُوَ عَلَى الْأَبِ الضَّامِنِ أَوْ تَرْجِعُ هِيَ عَلَى الْأَبِ وَلَا يَرْجِعُ هُوَ عَلَى الزَّوْجِ، وَلَوْ كَانَ الْمَهْرُ عَيْنًا أَخَذَتْهُ مِنْ الزَّوْجِ كُلِّهِ إنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ وَنِصْفَهُ إنْ كَانَ قَبْلَهُ وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَى الْأَبِ الضَّامِنِ قِيمَتَهُ.
قولهُ: (وَإِنْ شَرَطَ) أَيْ لَوْ شَرَطَ الزَّوْجُ الْأَلْفَ عَلَيْهَا (تَوَقَّفَ عَلَى قَبُولِهَا إنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ) بِأَنْ تَكُونَ مُمَيِّزَةً وَهِيَ أَهْلِيَّةُ الْمَرْأَةِ لِقَبُولِ بَدَلِ الْخُلْعِ إنْ شَرَطَ بِأَنْ تَعْرِفَ أَنَّ النِّكَاحَ جَالِبٌ وَالْخُلْعَ سَالِبٌ، فَإِنْ قَبِلَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ لِوُجُوبِ الشَّرْطِ وَهُوَ قَبُولُهَا، وَلَا يَجِبُ الْمَالُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْغَرَامَةِ إذْ الْبَيْنُونَةُ بِالْخُلْعِ تَعْتَمِدُ الْقَبُولَ دُونَ لُزُومَ الْمَالِ؛ أَلَا يَرَى إلَى بَيْنُونَتِهَا بِدُونِهِ فِيمَا إذَا سَمَّتْ خَمْرًا وَنَحْوَهُ، وَإِنْ قَبِلَهُ الْأَبُ بِدُونِهِ عَنْهَا فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ يَصِحُّ لِأَنَّهُ نَفْعٌ مَحْضٌ إذْ تَتَخَلَّصُ فِي عُهْدَتِهِ بِلَا مَالٍ وَلِذَا صَحَّ مِنْهَا فَصَارَ كَقَبُولِ الْهِبَةِ، وَفِي أُخْرَى لَا يَصِحُّ لِأَنَّ قَبُولَهَا شَرْطُ الْيَمِينِ وَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ.
قولهُ: (وَكَذَا إنْ خَالَعَهَا) أَيْ خَالَعَ الصَّغِيرَةَ الزَّوْجُ عَلَى مَهْرِهَا وَلَمْ يَضْمَنْ الْأَبُ تَوَقَّفَ عَلَى قَبُولِهَا إنْ كَانَتْ عَلَى مَا قُلْنَا آنِفًا فَإِنْ قَبِلَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ بَائِنًا وَلَا يَسْقُطُ الْمَهْرُ، وَإِنْ قَبِلَهُ الْأَبُ فَعَلَى الرِّوَايَتَيْنِ مَا لَمْ يَضْمَنْهُ، فَإِنْ ضَمِنَهُ صَحَّ وَوَقَعَ الطَّلَاقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ.
وَعُرِفَ مِنْ هَذَا أَنَّ الصَّغِيرَةَ الْعَاقِلَةَ إذَا قَبِلَتْ الْخُلْعَ مِنْ زَوْجِهَا صَحَّ الْخُلْعُ وَوَقَعَ الطَّلَاقُ وَلَا يَسْقُطُ الْمَهْرُ وَلَا يَلْزَمُ الْمَالُ.
هَذَا، ثُمَّ قِيلَ تَأْوِيلُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُخَالِعَهَا عَلَى مَالٍ مِثْلِ مَهْرِهَا، أَمَّا عَلَى مَهْرِهَا فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْأَبَ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ إبْطَالِ مِلْكِهَا بِمُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ، وَلَا يَعْتَبِرُ ضَمَانُهُ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْخُلْعَ عَلَى مَهْرِهَا كَالْخُلْعِ عَلَى مَالٍ آخَرَ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَتَنَاوَلُ مِثْلَهُ لَا عَيْنَهُ وَضَمَانُ الْأَبِ إيَّاهُ صَحِيحٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ إنْ كَانَ مَهْرُهَا أَلْفًا وَالْخُلْعُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِمَسْأَلَةِ الْكِتَابِ لَزِمَ خَمْسُمِائَةٍ، وَفِي الْقِيَاسِ يَلْزَمُهُ الْأَلْفُ.
وَأَصْلُهُ أَنَّ الْكَبِيرَةَ إذَا اخْتَلَعَتْ عَلَى مَهْرِهَا وَهُوَ أَلْفٌ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَبْلَ قَبْضِهِ فِي الْقِيَاسِ يَجِبُ خَمْسُمِائَةٍ لِأَنَّهُ وَجَبَ لَهُ عَلَيْهَا أَلْفٌ بِالشَّرْطِ وَهِيَ وَجَبَ لَهَا خَمْسُمِائَةٍ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَيَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا بِقَدْرِهِ فَبَقِيَ عَلَيْهَا خَمْسُمِائَةٍ لَهُ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: لَا يَجِبُ عَلَيْهَا قَبْلَ الْقَبْضِ شَيْءٌ لِأَنَّ الْمَهْرَ يُرَادُ بِهِ عُرْفًا مَا تَسْتَحِقُّهُ الْمَرْأَةُ وَهُوَ نِصْفُ الْمَهْرِ فَيَسْقُطُ عَنْ الزَّوْجِ وَبَعْدَ قَبْضِهِ يَجِبُ لَهُ خَمْسُمِائَةٍ بِالشَّرْطِ وَتَبْرَأُ عَنْ الْبَاقِي بِحُكْمِ الْخُلْعِ، وَهَذَا عَلَى خِلَافِ مَا ذَكَرَهُ قَاضِي خَانْ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْأَقْسَامَ كُلَّهَا.
وَإِذَا عَرَفْت هَذَا عَلِمْت أَنَّ الصَّوَابَ أَنْ يَقول: إذَا خَلَعَهَا عَلَى مَهْرِهَا وَهُوَ أَلْفٌ لَا كَمَا قَالَ عَلَى أَلْفٍ وَمَهْرُهَا أَلْفٌ فَإِنَّهُ إذَا خَالَعَهَا كَذَلِكَ يَكُونُ مِنْ الْخُلْعِ عَلَى مَالٍ آخَرَ غَيْرِ أَنَّهُ اتَّفَقَ أَنَّهُ مِثْلُ الْمَهْرِ وَلَا أَثَرَ لِذَلِكَ، وَالْحُكْمُ فِيهِ إذَا كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَبَ الْمُسَمَّى لَهُ سُقُوطُ الْمَهْرِ عَنْهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا، وَسَلَامَتُهُ لَهَا إنْ كَانَ مَقْبُوضًا لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي التَّقْسِيمِ، وَإِذْ قَدْ وَقَعَ الْكَلَامُ فِي خُلْعِ الْأَجْنَبِيِّ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ نُبْذَةٍ مِنْهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ إذَا خَاطَبَ الزَّوْجَ فَإِمَّا أَنْ يُضِيفَ الْبَدَلَ إلَى نَفْسِهِ عَلَى وَجْهٍ يُفِيدُ ضَمَانَهُ لَهُ أَوْ مِلْكَهُ إيَّاهُ أَوْ يُرْسِلُهُ أَوْ يُضِيفُهُ إلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ أَضَافَهُ إلَى نَفْسِهِ كَذَلِكَ بِأَنْ قَالَ اخْلَعْهَا عَلَى عَبْدِي هَذَا أَوْ أَلْفِيِّ هَذِهِ أَوْ عَلَى أَلْفٍ عَلَيَّ أَوْ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ فَفَعَلَ فَالْخُلْعُ وَاقِعٌ وَالْمُسَمَّى عَلَيْهِ، فَإِنْ اسْتَحَقَّ لَزِمَ قِيمَتُهُ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِهَا لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْبَدَلُ لَا مَنْ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ وَلَا إلَى قَبُولِهِ، بَلْ يَكْفِي الْأَمْرُ مِنْهُ لِأَنَّ الْوَاحِدَ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ الْخُلْعِ كَمَا فِي النِّكَاحِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ اخْتَلَعْتِ نَفْسَك مِنِّي فَقَالَتْ فَعَلْت قِيلَ لَا يَصِحُّ بِلَا قَبُولِ الزَّوْجِ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ يَصِحُّ إنْ أَرَادَ بِهِ التَّحْقِيقَ دُونَ السَّوْمِ.
فَإِنْ قُلْت: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ تَسْمِيَةِ الْأَجْنَبِيِّ وَسَيِّدِ الْأَمَةِ الْمَنْكُوحَةِ لِعَبْدٍ أَوْ حُرٍّ فَإِنَّهُ إذَا خَلَعَهَا مِنْ الزَّوْجِ عَلَى عَبْدِهِ فَاسْتَحَقَّ لَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ بَلْ تَجِبُ قِيمَةُ الْعَبْدِ عَلَى الْأَمَةِ حَتَّى تُبَاعَ فِيهِ لِظُهُورِ الدَّيْنِ فِي حَقِّ السَّيِّدِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ قَبُولَ الْخُلْعِ هُنَا وُجِدَ مِنْهَا حُكْمًا بِسَبَبِ وِلَايَةِ السَّيِّدِ عَلَيْهَا فَكَانَ قَبُولُهُ كَقَبُولِهَا فَكَانَ الدَّيْنُ عَلَيْهَا إلَّا أَنَّ السَّيِّدَ الْتَزَمَ خُصُوصَ الْأَوَّلِ، فَإِذَا فَاتَ عَادَ إلَيْهَا وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي حَقِّ السَّيِّدِ فَتُبَاعُ فِيهِ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهَا.
وَإِذَا بِيعَتْ إنْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ بُدِئَ بِهِ لِأَنَّ دَيْنَ الْخُلْعِ أَضْعَفُ، أَمَّا لَوْ خَلَعَهَا عَلَى رَقَبَتِهَا وَهِيَ تَحْتَ عَبْدٍ صَحَّ، فَلَوْ ضَمِنَ الْمَوْلَى الدَّرَكَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ فَالْمُطَالَبَةُ عَلَى الْمَوْلَى لِالْتِزَامِهِ دُونَهَا لَا قَبْلَ الْعِتْقِ وَلَا بَعْدَهُ، وَلِأَنَّ الْقَبُولَ إنَّمَا يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْبَدَلِ لَا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَإِنْ أَرْسَلَهُ بِأَنْ قَالَ عَلَى أَلْفٍ أَوْ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ تَوَقَّفَ عَلَى قَبُولِ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ الْبَدَلَ لَمْ يُضِفْ إلَى أَحَدٍ، فَإِنْ قَبِلَتْ لَزِمَهَا تَسْلِيمُهُ أَوْ قِيمَتُهُ إنْ عَجَزَتْ، وَإِنْ أَضَافَهُ إلَى غَيْرِهِ بِأَنْ قَالَ عَلَى عَبْدِ فُلَانٍ اُعْتُبِرَ قَبُولُ فُلَانٍ لِأَنَّ الْبَدَلَ أُضِيفَ إلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ الزَّوْجُ لِرَبِّ الْعَبْدِ خَلَعْت امْرَأَتِي عَلَى عَبْدِك لِأَنَّ الْعَبْدَ أُضِيفَ إلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ قَالَ لَهَا خَالَعْتكِ عَلَى عَبْدِ فُلَانٍ أَوْ قَالَتْ هِيَ اخْلَعْنِي عَلَى دَارِ فُلَانٍ تَوَقَّفَ عَلَى قَبُولِهَا لِأَنَّ الْخَطَّابَ جَرَى مَعَهَا فَكَانَتْ هِيَ الدَّاخِلَةُ فِي الْعَقْدِ.
وَلَوْ قَالَتْ اخْلَعْنِي عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنَّ فُلَانًا ضَامِنٌ فَأَجَابَ فَالْخُلْعُ مَعَهَا لِأَنَّهَا الْعَاقِدَةُ وَتَوَقَّفَ ضَمَانُ فُلَانٍ عَلَى قَبُولِهِ.
وَلَوْ وَكَّلَتْ مَنْ يَخْلَعُهَا بِأَلْفٍ فَفَعَلَ فَالْمَالُ عَلَيْهَا دُونَ الْوَكِيلِ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ فِي الْخُلْعِ تَرْجِعُ إلَى مَنْ عُقِدَ لَهُ لَا إلَى الْوَكِيلِ، وَلَوْ ضَمِنَهُ الْوَكِيلُ لَزِمَهُ، وَإِنْ أَدَّى يَرْجِعُ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْخُلْعَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، فَفَائِدَةُ أَمْرِهَا بِهِ الرُّجُوعُ عَلَيْهَا، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالنِّكَاحِ إذَا ضَمِنَ فَأَدَّى لَا يَرْجِعُ عَلَى الزَّوْجِ إلَّا إذَا ضَمِنَ بِأَمْرِهِ، فَإِنَّ فَائِدَةَ الْأَمْرِ جَوَازُ النِّكَاحِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إنْكَاحَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَبْدِ كَالْخُلْعِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا.
فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِالْبَابِ:
الْمُخْتَلِعَةُ يَلْحَقُهَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ عِنْدَنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيمَا سَلَفَ وَبِهِ قَالَتْ الظَّاهِرِيَّةُ، وَهُوَ قول ابْنِ مَسْعُودٍ وَعِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَشُرَيْحٍ وَطَاوُسٍ وَالزُّهْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ وَمَكْحُولٍ وَعَطَاءٍ وَالثَّوْرِيِّ.
وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ لَا يَلْحَقُهَا وَلَا يَتَنَاوَلُهَا الطَّلَاقُ فِي قولهِ نِسَائِي طَوَالِقُ عِنْدَهُمْ.
وَلَوْ قَالَ لَهَا الْكِنَايَاتُ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الرَّجْعِيِّ مِثْلُ اعْتَدِّي اسْتَبْرِئِي رَحِمَك أَنْتِ وَاحِدَةٌ يَنْوِي الطَّلَاقَ يَقَعُ عَلَيْهَا طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
لَهُمْ مَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «الْمُخْتَلِعَةُ لَا يَلْحَقُهَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ» وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَلَنَا مَا رَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ بِإِسْنَادِهِ فِي الْأَمَالِي عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: «الْمُخْتَلِعَةُ يَلْحَقُهَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ» وَحَدِيثُهُمْ لَا أَصْلَ لَهُ، ذَكَرَهُ سِبْطُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي إيثَارِ الْإِنْصَافِ: امْرَأَةٌ قَالَتْ خَلَعْت نَفْسِي مِنْك بِأَلْفٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٌ فَقَالَ الزَّوْجُ رَضِيت أَوْ أَجَزْت كَانَ ثَلَاثًا بِثَلَاثَةِ آلَافٍ.
وَلَوْ خَلَعَ أَمَتَهُ عَلَى رَقَبَتِهَا وَزَوْجُهَا عَبْدٌ أَوْ مُدَبَّرٌ أَوْ مُكَاتَبٌ صَحَّ لِأَنَّهَا تَصِيرُ مِلْكًا لِلْمَوْلَى، وَلَوْ كَانَ حُرًّا لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ مِلْكُهَا أَيْ مِلْكُهَا الزَّوْجِ بِهِ فَيَبْطُلُ النِّكَاحُ، وَمَتَى بَطَلَ النِّكَاحُ بَطَلَ الْخُلْعُ لَكِنَّهُ يَقَعُ طَلَاقٌ بَائِنٌ لِأَنَّهُ بَطَلَ الْبَدَلُ وَبَقِيَ لَفْظُ الْخُلْعِ وَهُوَ طَلَاقٌ بَائِنٌ تَحْتَ حُرٍّ أَمَتَانِ دَخَلَ بِهِمَا فَخَلَعَهُمَا سَيِّدُهُمَا عَلَى رَقَبَةِ الصُّغْرَى فَالْخُلْعُ وَاقِعٌ عَلَى الْكُبْرَى وَبَطَلَ الْخُلْعُ فِي الَّتِي خَلَعَ عَلَى رَقَبَتِهَا وَهِيَ الصُّغْرَى لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُ الْخُلْعِ عَلَى الْكُبْرَى لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يُقَارِنْ مِلْكَ الزَّوْجِ فِيهَا لَا فِي الصُّغْرَى، لِأَنَّ الطَّلَاقَ فِي حَقِّهَا يُقَارِنُ مِلْكَ الزَّوْجِ بَعْضَ رَقَبَتِهَا فَتُقْسِمُ الصُّغْرَى عَلَى مَهْرَيْهِمَا لِأَنَّهُ جَعَلَهَا بَدَلًا عَنْ طَلَاقِهِمَا، فَمَا أَصَابَ مَهْرَ الْكُبْرَى فَهُوَ لِلزَّوْجِ، وَمَا أَصَابَ الصُّغْرَى بَقِيَ لِلْمَوْلَى، وَلَوْ خَلَعَ كُلًّا مِنْهُمَا عَلَى رَقَبَةِ الْأُخْرَى طَلُقَتَا مَجَّانًا لِأَنَّ مِلْكَ رَقَبَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا يُقَارِنُ طَلَاقَهَا فَصَحَّ الْخُلْعُ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ وَلَا يُسْلِمُ لِلزَّوْجِ شَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ.
امْرَأَةٌ لَهَا ابْنَا عَمٍّ وَهُمَا وَارِثَاهَا تَزَوَّجَتْ أَحَدَهُمَا وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ خَلَعَتْ بِمَهْرِهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهَا وَلَا مَالَ لَهَا فِي غَيْرِهِ وَمَاتَتْ فِي الْعِدَّةِ فَالْمَهْرُ بَيْنَهُمَا وَلَا يَعْتَبِرُ مِنْ الثُّلُثِ فَلَا يَصِحُّ ذِكْرُ الْبَدَلِ فِي حَقِّ الْوَارِثِ فَبَقِيَ لَفْظُ الْخُلْعِ فَتَبَيَّنَ وَيَرِثَانِ بِالْقَرَابَةِ، وَلَوْ كَانَ طَلَّقَهَا عَلَى مَهْرِهَا وَمَاتَتْ فِي الْعِدَّةِ فَهُوَ طَلَاقٌ رَجْعِيٌّ فَلَهُ النِّصْفُ بِمِيرَاثِ الزَّوْجِيَّةِ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ.
قَاعِدَةٌ فِي الطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ:
الْأَصْلُ أَنَّهُ مَتَى ذَكَرَ طَلَاقَيْنِ وَذَكَرَ عَقِيبَهُمَا مَالًا يَكُونُ مُقَابَلًا بِهِمَا إذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِصَرْفِ الْبَدَلِ إلَيْهِ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ إلَّا إذَا وَصَفَ الْأَوَّلَ بِمَا يُنَافِي وُجُوبَ الْمَالِ فَيَكُونُ الْمَالُ حِينَئِذٍ مُقَابَلًا بِالثَّانِي وَوَصْفُهُ بِالْمُنَافِي كَالتَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّ الْمَالَ بِمُقَابَلَةِ الثَّانِي وَأَنَّ شَرْطَ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَى الْمَرْأَةِ حُصُولُ الْبَيْنُونَةِ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَلْتَزِمُهُ لِتَمْلِكَ نَفْسَهَا، فَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ السَّاعَةَ وَاحِدَةً وَغَدًا أُخْرَى بِأَلْفٍ، أَوْ قَالَ عَلَى أَنَّك طَالِقٌ غَدًا بِأَلْفٍ، أَوْ قَالَ الْيَوْمَ وَاحِدَةً وَغَدًا أُخْرَى رَجْعِيَّةً بِأَلْفٍ فَقَبِلَتْ تَقَعُ وَاحِدَةٌ بِخَمْسِمِائَةٍ فِي الْحَالِ وَغَدًا أُخْرَى بِغَيْرِ شَيْءٍ إلَّا أَنْ يَعُودَ مِلْكُهُ قَبْلَهُ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ تَطْلِيقَةٍ مُنْجِزَةٍ وَتَطْلِيقَةٍ مُضَافَةٍ إلَى الْغَدِ وَذَكَرَ عَقِيبَهُمَا مَالًا فَانْصَرَفَ إلَيْهِمَا؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ مَكَانَ الْبَدَلِ اسْتِثْنَاءً يَنْصَرِفُ إلَيْهِمَا فَيَقَعُ الْيَوْمَ وَاحِدَةً بِخَمْسِمِائَةٍ، فَإِذَا جَاءَ غَدٌ تَقَعُ أُخْرَى لِوُجُودِ الْوَقْتِ الْمُضَافِ إلَيْهِ، وَلَا يَجِبُ شَيْءٌ لِأَنَّ شَرْطَ وُجُوبِ الْمَالِ بِالطَّلَاقِ الثَّانِي حُصُولُ الْبَيْنُونَةِ وَلَمْ تَحْصُلْ لِحُصُولِهَا بِالْأُولَى، حَتَّى لَوْ نَكَحَهَا قَبْلَ مَجِيءِ الْغَدِ ثُمَّ جَاءَ الْغَدُ تَقَعُ أُخْرَى بِخَمْسِمِائَةٍ لِوُجُودِ شَرْطِ وُجُوبِ الْمَالِ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ السَّاعَةَ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً أَوْ بَائِنَةً أَوْ بِغَيْرِ شَيْءٍ عَلَى أَنَّك طَالِقٌ غَدًا أُخْرَى بِأَلْفٍ يَقَعُ فِي الْحَالِ وَاحِدَةٌ مَجَّانًا وَغَدًا أُخْرَى بِأَلْفٍ لِتَعَذُّرِ الصَّرْفِ إلَيْهِمَا لِأَنَّهُ وَصَفَ الْأُولَى بِمَا يُنَافِي وُجُوبَ الْمَالِ إلَّا أَنَّ فِي قولهِ بَائِنَةً يُشْتَرَطُ التَّزَوُّجُ لِوُجُوبِ الْمَالِ بِالثَّانِي.
وَلَوْ قَالَ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ بِأَلْفٍ فَقَبِلَتْ يَقَعُ فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ وَاحِدَةٌ بِثُلُثِ الْأَلْفِ.
وَفِي الطُّهْرِ الثَّانِي أُخْرَى مَجَّانًا لِأَنَّهَا بَانَتْ بِالْأُولَى، وَلَا يَجِبُ بِالثَّانِيَةِ الْمَالُ إلَّا إذَا نَكَحَهَا قَبْلَ الطُّهْرِ الثَّانِي فَحِينَئِذٍ تَقَعُ أُخْرَى بِثُلُثِ الْأَلْفِ.
وَفِي الطُّهْرِ الثَّالِثِ كَذَلِكَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
فُرُوعٌ:
لَوْ خَالَعَهَا وَلَمْ يَذْكُرْ الْعِوَضَ ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ يَبْرَأُ كُلٌّ عَنْ صَاحِبِهِ.
وَقَالَ خُوَاهَرْ زَادَهُ: هَذِهِ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الزَّوْجِ مَهْرٌ فَعَلَيْهَا رَدُّ مَا سَاقَ إلَيْهَا مِنْ الْمَهْرِ لِأَنَّ الْمَالَ مَذْكُورٌ عُرْفًا بِذَكَرِ الْخُلْعِ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قولهُمَا لَا يَبْرَأُ أَحَدُهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ وَلَا يَبْرَأُ عَنْ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ وَمَئُونَةِ السُّكْنَى فِي قولهِمْ جَمِيعًا إلَّا إذَا شَرَطَا فِي الْخُلْعِ، نَقَلَهُ فِي الْخُلَاصَةِ وَكَذَا ذَكَرَهُ السُّغْدِيُّ: أَعْنِي رَدَّهَا الْمَهْرِ.
وَذَكَرَ فِي الْوَجِيزِ فِيمَا إذَا قَالَ اخْتَلِعِي وَلَمْ يَذْكُرْ الْبَدَلَ فَقَالَتْ اُخْتُلِعَتْ عَنْ خُوَاهَرْ زَادَهُ أَنَّهُ يَقَعُ طَلَاقٌ بَائِنٌ وَلَا يَكُونُ خُلْعًا كَأَنَّهُ.
قَالَ طَلِّقِي نَفْسَك بَائِنًا فَقَالَتْ طَلَّقْت، ثُمَّ اسْتَشْكَلَهُ عَلَى مَا حَكَى عَنْهُ مِنْ رَدِّهَا مَا سَاقَهُ إلَيْهَا مِنْ الصَّدَاقِ إذَا كَانَ مَقْبُوضًا إذْ لَمْ يَجْعَلْ كَأَنَّهُ قَالَ طَلَّقْتُك بَائِنًا فَهَذَا مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
ذَكَرَ فِي التَّجْنِيسِ: إذَا قَالَ اخْتَلِعِي فَقَالَتْ اُخْتُلِعَتْ تَطْلُقُ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا إذَا قَالَ اشْتَرِي نَفْسَك مِنِّي فَقَالَتْ اشْتَرَيْت لَا تَطْلُقُ بِأَنَّ قولهُ اخْتَلِعِي أَمْرٌ بِالطَّلَاقِ بِلَفْظِ الْخُلْعِ وَالْمَرْأَةُ تَمْلِكُ الطَّلَاقَ بِأَمْرِ الزَّوْجِ، بِخِلَافِ اشْتَرِي نَفْسَك لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالْخُلْعِ الَّذِي هُوَ مُعَاوَضَةٌ إذَا لَمْ يَكُنْ الْبَدَلُ مُقَدَّرًا، فَإِنْ قَدَّرَهُ بِأَنْ قَالَ بِمَهْرِك وَنَفَقَةِ عِدَّتِك وَقَالَتْ اشْتَرَيْت صَحَّ عَلَى رِوَايَةٍ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، يُرِيدُ بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مَا ذَكَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ إذَا قَالَ اشْتَرِي نَفْسَك مِنِّي بِكَذَا فَقَالَتْ اشْتَرَيْت لَا يَقَعُ مَا لَمْ يَقُلْ الزَّوْجُ بِعْت، وَكَذَا الرِّوَايَتَانِ فِيمَا إذَا قَالَ اخْتَلِعِي مِنِّي بِكَذَا وَذَكَرَ مَالًا مُقَدَّرًا فَقَالَتْ اخْتَلَعْتُ.
فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الطَّلَاقِ: لَا يَصِحُّ مَا لَمْ يَقُلْ الزَّوْجُ خَلَعْت، وَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ: يَصِحُّ وَيَبْرَأُ الزَّوْجُ عَنْ الْمَهْرِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ الْإِشْكَالِ فَبِحَمْلِ سُقُوطِ الْمَهْرِ وَجَعْلِهِ بَدَلًا فِيمَا إذَا لَمْ يُنَوِّبْهُ كَوْنَهُ خُلْعًا بِغَيْرِ مَالٍ وَحِمْلِ كَوْنِهِ طَلَاقًا بَائِنًا بِلَا مَالٍ عَلَى مَا إذَا نَوَى بِهِ كَوْنَهُ بِلَا مَالٍ، وَهَذَا لِأَنَّ مُطْلَقَ الْخُلْعِ يَنْصَرِفُ إلَى الْفُرْقَةِ بَعُوضٍ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ إلَّا بِمُوجِبٍ، فَإِذَا لَمْ يُسَمِّيَا مَالًا انْصَرَفَ إلَى الْمَهْرِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ خِلَافَهُ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا فِي الْمُنْتَقَى.
قَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا قَالَ لَهَا اخْتَلِعِي نَفْسَك فَقَالَتْ قَدْ خَلَعْتُ نَفْسِي لَا يَكُونُ خُلْعًا إلَّا عَلَى مَالٍ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِغَيْرِ مَالٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ خَلَعْتُك وَخَالَعْتُك، فَإِذَا قَالَ خَالَعْتكِ يَنْوِي بِهِ الطَّلَاقَ وَقَعَ وَلَا يَبْرَأُ الزَّوْجُ عَنْ الْمَهْرِ وَعَلَى هَذَا فَلَا يَلْزَمُ هَذَا الْحُكْمُ إلَّا إذَا تَصَادَقَا عَلَى عَدَمِ النِّيَّةِ، وَمِمَّا يُوجِبُ حَمْلَهُ عَلَى مُجَرَّدِ الطَّلَاقِ التَّصْرِيحُ بِنَفْيِ الْمَالِ كَمَا إذَا قَالَ اخْتَلِعِي مِنِّي بِغَيْرِ شَيْءٍ فَالْخُلْعُ وَاقِعٌ بِلَا مَالٍ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِنَفْيِ الْمَالِ، نَقَلَهُ عَنْ مُحَمَّدٍ الْفَضْلِيِّ وَالطَّلَاقُ بَائِنٌ، وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ حَقِيقَتَهُ مَا فِيهِ الْمَالُ لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيٍّ اخْلَعْ امْرَأَتِي لَمْ يَمْلِكْ خَلْعَهَا بِلَا عِوَضٍ وَلَمْ يَجْعَلْ كَقولهِ طَلِّقْهَا بَائِنًا.
وَلَوْ قَالَ اخْتَلِعِي عَلَى مَالٍ أَوْ بِمَا شِئْت وَلَمْ يُقَدِّرْهُ فَقَالَتْ اخْتَلَعْتُ عَلَى أَلْفٍ لَا يَصِحُّ مَا لَمْ يَقُلْ الزَّوْجُ خَلَعْتُك أَوْ نَحْوَ أَجَزْت، فَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا قَالَ الزَّوْجُ اخْلَعِي نَفْسَك مِنِّي بِأَلْفٍ وَالْبَاقِي بِحَالِهِ حَيْثُ يَتِمُّ.
وَالْفَرْقُ أَنَّ التَّعْوِيضَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ الْبَدَلَ مَجْهُولٌ، فَلَوْ صَحَّ صَارَ الْوَاحِدُ مُسْتَزِيدًا مُسْتَنْقِصًا وَهَذَا مَفْقُودٌ فِي الثَّانِيَةِ، فَلَوْ لَمْ يَصِحَّ إنَّمَا لَا يَصِحُّ لِمُضَادَّةِ الْحُقُوقِ، وَحُقُوقُ الْخُلْعِ لَا تَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ.
إذَا لَقَّنَهَا اخْتَلَعْتُ مِنْك بِالْمَهْرِ وَنَفَقَةِ الْعِدَّةِ بِالْعَرَبِيَّةِ وَهِيَ لَا تَعْلَمُ مَعْنَاهُ، أَوْ لَقَّنَهَا أَبْرَأْتُك مِنْ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ قِيلَ يَصِحُّ.
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ التَّفْوِيضَ كَالتَّوْكِيلِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِعِلْمِ الْوَكِيلِ، وَالْإِبْرَاءُ عَنْ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ وَالْمَهْرِ وَإِنْ كَانَ إسْقَاطًا لَكِنَّهُ إسْقَاطٌ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَصَارَ شِبْهُ الْبَيْعِ، وَالْبَيْعُ وَكُلُّ الْمُعَاوَضَاتِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ.
وَهَذِهِ صُورَةٌ كَثِيرًا مَا تَقَعُ قَالَ أَبْرِئِينِي مِنْ كُلِّ حَقٍّ يَكُونُ لِلنِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ فَقَالَتْ أَبْرَأْتُك مِنْ كُلِّ حَقٍّ يَكُونُ لِلنِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ فَقَالَ فِي فَوْرِهِ طَلَّقْتُك وَهِيَ مَدْخُولٌ بِهَا يَقَعُ بَائِنًا لِأَنَّهُ بِعِوَضٍ، وَإِذَا اخْتَلَعَتْ بِكُلِّ حَقٍّ لَهَا عَلَيْهِ فَلَهَا النَّفَقَةُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ لَهَا حَقًّا حَالَ الْخُلْعِ، فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ تَسْمِيَةَ كُلِّ حَقٍّ لَهَا عَلَيْهِ وَكُلُّ حَقٍّ يَكُونُ لِلنِّسَاءِ صَحِيحَةٌ وَيَنْصَرِفُ إلَى الْقَائِمِ لَهَا إذْ ذَاكَ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ لَا يُصَحِّحُ هَذَا لِلْجَهَالَةِ، وَهَذَا عِنْدَنَا عُمُومٌ لَا إجْمَالٌ.
وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ ثُمَّ طَلَّقَهَا بَائِنًا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ثَانِيًا عَلَى أَلْفٍ أُخْرَى ثُمَّ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ عَلَى مَهْرِهَا لَمْ يَبْرَأْ الزَّوْجُ إلَّا مِنْ الثَّانِي دُونَ الْمَهْرِ الْأَوَّلِ.
وَلَوْ جَاءَ رَجُلٌ إلَى آخَرَ فَذَكَرَ أَنَّهُ وَكِيلٌ لِامْرَأَتِهِ فِي خَلْعِهَا فَخَلَعَهَا عَلَى أَلْفٍ فَأَنْكَرَتْ التَّوْكِيلَ، فَإِنْ كَانَ ضَمِنَ الْمَالَ لِلزَّوْجِ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَعَلَيْهِ الْبَدَلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ضَمِنَ، فَإِنْ صَدَّقَهُ الزَّوْجُ عَلَى أَنَّهَا وَكَّلَتْهُ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَلَمْ يَجِبْ لَهُ مَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَدْعُ ذَلِكَ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْخُلْعَ مَوْقُوفٌ عَلَى قَبُولِهَا، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ بَاعَ مِنْهُ تَطْلِيقَةً بِأَلْفٍ قَالَ الصَّفَّارُ يَقَعُ الطَّلَاقُ ضَمِنَ لَهُ الْمَهْرَ أَوْ لَا لِأَنَّ لَفْظَةَ الشِّرَاءِ لَفَظَّةُ الضَّمَانِ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافِ: هَذَا وَالْخُلْعُ سَوَاءٌ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ الرِّسَالَةَ عَنْ امْرَأَةِ الرَّجُلِ إلَيْهِ فِي أَنْ يُطَلِّقَهَا أَوْ يُمْسِكَهَا فَقَالَ الزَّوْجُ لَا أُمْسِكُهَا بَلْ أُطَلِّقُهَا فَقَالَ الرَّسُولُ أَبْرَأْتُك مِنْ جَمِيعِ مَا لَهَا عَلَيْك فَطَلَّقَهَا فَأَنْكَرَتْ الْمَرْأَةُ الْإِبْرَاءَ وَالرَّسُولُ يَدَّعِيهِ.
فَإِنْ ادَّعَى الزَّوْجُ رِسَالَتَهَا أَوْ وَكَالَتَهَا إيَّاهُ لِذَلِكَ وَقَعَ وَهِيَ عَلَى حَقِّهَا، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ فَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ قَالَ أَبْرَأْتُك مِنْ حَقِّهَا عَلَيْك عَلَى أَنْ تُطَلِّقَهَا فَالطَّلَاقُ غَيْرُ وَاقِعٍ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِالْمَهْرِ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَتِهَا، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ عَلَى أَنْ تُطَلِّقَهَا فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ وَهِيَ عَلَى حَقِّهَا، وَهَذِهِ فِي أَمْرِ الْحَكَمَيْنِ لَمَّا كَانَ سَبَبَ الْخُلْعِ الْمُشَاقَّةُ وَجَبَ ذِكْرُ أَمْرِ الْحَكَمَيْنِ فِيهِ وَهُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَل: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إنْ يُرِيدَا إصْلَاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} ضَمِيرُ يُرِيدَا لِلْحَكَمَيْنِ وَضَمِيرُ بَيْنِهِمَا لِلزَّوْجَيْنِ، وَقِيلَ لِلْحَكَمَيْنِ أَيْضًا، وَقِيلَ الضَّمِيرَانِ لِلزَّوْجَيْنِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْحَكَمَانِ مِنْ أَهْلِيهِمَا كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنَّمَا كَانَ أَوْلَى لِأَنَّهُمَا أَخْبَرُ بِبَاطِنِ أَمْرِهِمَا وَأَشْفَقُ عَلَيْهِمَا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: يُشْتَرَطُ كَوْنُهُمَا مِنْ أَهْلِيهِمَا إلَّا أَنْ لَا يُوجَدَ مِنْ أَهْلِيهِمَا مَنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ.
وَقُلْنَا: الْمَعْنَى الْمَفْهُومُ الَّذِي قُلْنَاهُ صَارِفٌ عَنْ تَعْيِينِ كَوْنِ الْمُرَادِ ذَلِكَ، ثُمَّ قول الْحَكَمَيْنِ نَافِذٌ فِي الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ بِتَوْكِيلِهِمَا عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأَصَحِّ وَأَحْمَدُ، وَهُوَ قول عَطَاءٍ وَقَتَادَةَ وَالْحَسَنِ وَأَبِي ثَوْرٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ: قولهُمَا فِي ذَلِكَ نَافِذٌ مِنْ غَيْرِ تَوْكِيلٍ، وَهُوَ قول الْأَوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ، وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ.
قُلْنَا: لَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُطَلِّقَ وَلَا يُبْرِئَ مِنْ مَالِهِمَا فَكَيْفَ يَفْعَلُ ذَلِكَ نَائِبُهُ.
وَفِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ لِلرَّازِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: يَعِظُهَا الزَّوْجُ، فَإِنْ انْتَهَتْ وَإِلَّا هَجَرَهَا، فَإِنْ انْتَهَتْ وَإِلَّا ضَرَبَهَا.
فَإِنْ انْتَهَتْ وَإِلَّا رَفَعَ أَمْرَهَا إلَى السُّلْطَانِ فَيَبْعَثُ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا، وَأَيُّهُمَا كَانَ أَظْلَمُ رَدَّهُ إلَى السُّلْطَانِ فَأَخَذَ فَوْقَ يَدِهِ كَالْعِنِّينِ وَالْمَجْبُوبِ فَالْحَاكِمُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى النَّظَرَ فِي ذَلِكَ وَالْفَصْلَ بَيْنَهُمَا.
وَلَوْ ادَّعَى النُّشُوزَ وَادَّعَتْ هِيَ ظُلْمَهُ وَتَقْصِيرَهُ فِي حَقِّهَا يَفْعَلُ الْحَاكِمُ مَا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ مِنْ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ، وَلَيْسَ لَهُمَا أَنْ يَجْمَعَا وَلَا أَنْ يُفَرِّقَا بِغَيْرِ أَمْرِهِمَا، وَمَا زَعَمَ إسْمَاعِيلُ الْمَالِكِيُّ مِنْ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ لَمْ يَعْرِفُوا أَمْرَ الْحَكَمَيْنِ إخْبَارٌ بِالنَّفْيِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ، وَالْأَوْلَى بِالْإِنْسَانِ حِفْظُ اللِّسَانِ، وَمَا قَالَ إنَّ الْوَكِيلَ لَا يُسَمَّى حَكَمًا مَمْنُوعٌ بَلْ الْوَكَالَةُ تُؤَكِّدُ مَعْنَى الْحُكْمِيَّةِ لِقَبُولِ قولهِمَا عَلَيْهِمَا وَالْحَكَمَانِ يَمْضِيَانِ أَمْرَ الزَّوْجَيْنِ، فَإِذَا قَصَدَا الْحَقَّ وَفَّقَهُمَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلصَّوَابِ إذْ هُمَا مُوَكَّلَانِ لِلْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ فَعَلَيْهِمَا الِاجْتِهَادُ وَطَلَبُ الْخَيْرِ لَهُمَا، وَكُلُّ مَا وَرَدَّ عَنْ السَّلَفِ أَنَّ فِعْلَ الْحَكَمَيْنِ جَائِزٌ عَلَيْهِمَا فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى رِضَاهُمَا إذْ لَمْ يَنُصُّوا عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ بِغَيْرِ رِضَا الزَّوْجَيْنِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُمَا أَنْ يُطَلِّقَا امْرَأَةَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَلَا أَنْ يَدْفَعَا مَالًا بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ، بِخِلَافِ قَضَاءِ دَيْنِهِ إذَا امْتَنَعَ مِنْهُ لِأَنَّ ذَلِكَ إيصَالُ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحَقِّهِ وَلَا لِلزَّوْجِ فِي مَالِهَا، قَالَ تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبٍ مِنْ نَفْسِهِ» وَالْحَكَمَانِ إنَّمَا بُعِثَا لِلصُّلْحِ، وَلِيَعْلَمَا ظُلْمَ الظَّالِمِ مِنْهُمَا فَيُنْكِرَا عَلَيْهِ ظُلْمَهُ، فَإِذَا لَمْ يَقْبَلْ أَعْلَمَا الْحَاكِمَ لِيَدْفَعَ ظُلْمَهُ، فَالْحَكَمَانِ شَاهِدَانِ فِي حَالٍ وَمُصْلِحَانِ فِي حَالِ إذَا فُوِّضَ الْأَمْرُ إلَيْهِمَا.
وَقول مَنْ قَالَ إنَّهُمَا يُفَرِّقَانِ وَيَخْلَعَانِ مِنْ غَيْرِ تَوْكِيلٍ غَيْرُ مَقْبُولٍ عِنْدَنَا، وَلَيْسَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَاهِدًا فِي ذَلِكَ.